قبل أن تغادر والدته البيت لتلحق بوالده في الحقل أوصته أن يعتني بأخيه الأصغر ولا يتركه وحيداً، فطمأنها ناصر بأنه سيكون عند حسن ظنها “ولا يهمك، بدير بالي عليه”. قال لها أنهما سيخرجان للعب مع أولاد الحارة فأكدت عليه أن يغلق الباب جيداً وطلبت منه مجدداً ألاّ يهمل أخاه أثناء لعبه مع بقية الأولاد، وخرجت. قبل أن يخرج مع أخيه من البيت فكّر أن أخاه يمكن أن يجوع وبالتالي سيقطع عليه اللعب ليعود به إلى البيت، فقرر أن يحتاط لذلك. تناول من النملية زززشأرغفة الطابون الملفوفة بقطعة قماش وأخذ منها نصف رغيف وأعاد لفها وإرجاعها حيث كانت، وتناول صحن الزيت، دهن نصف الرغيف بالزيت ثم رشه بالملح. وضع قطعة الخبز داخل كيس من الورق ودسها في جيبه.
خرج من البيت مع أخيه واتجها إلى الساحة في وسط الحارة. لم يكن هناك سوى اثنين من الأولاد يجلسان في الظل مستندان إلى جدار أحد البيوت، انضم إليهما وطلب من أخيه أن يجلس بجانبه أو أن يلعب ما يشاء قريباً منهم. بدأ أولاد آخرون بالتوافد، وبضمنهم حسن الذي كان يحمل كرة جديدة وقال إنه أحضرها ليستعملوها بدلاً من “طابة الشرايط” في لعبة السبعة أحجار، وخلال وقت قصير أصبح العدد كافياً لبدء اللعب.
حين انقسموا إلى فريقين كان أخوه الأصغر زائداً، اقترحوا عليه أن يعيده إلى البيت، لكنه رفض الفكرة لأن لا أحد في البيت، ولا يستطيع أن يبقيه وحده في البيت، اقترح أن يشركوه في اللعبة بصفة “فسيسي طيّار”، أي أن يكون دائماً مع الفريق الذي يسقط برج الأحجار السبعة ثم يحاول بناءها مرة أخرى خلال مطاردته من الفريق الآخر الذي يحاول أن يصيب أفراده بالكرة ل”يميتهم” ويخرجهم من اللعب قبل أن يتمكنوا من إعادة البناء فيكسب اللعبة وينتقل إلى الدور الآخر، أما إن أتموا بناء الأحجار فإنهم يكسبون اللعبة وسيلعبون هذا الدور مرة أخرى.
سأل الأولاد من منهم يحمل قطعة معدنية لاستعمالها في إجراء قرعة لمعرفة الفريق الذي سيبدأ أولاً برمي الكرة، فلم يكن مع أي منهم حتى “تعريفة”، فالتقط من الأرض حجراً صغيراً ووضعه في كفه ووضع يديه خلف ظهره وبدّل مكان الحجر عدة مرات وطلب من حسن أن يعرف بأي يد يوجد الحجر، فإن حزر مكانه يكن فريقه الأول وإن لم يحزر فالأول فريق ناصر. لم يحزر فكان نصيب فريق ناصر البدء. رتب ناصر الأحجار وسدد الكرة عليها لكنه أخطأ، حاول المرة الثانية ضمن المحاولات الثلاث المسموح بها فأصاب، واندمج الفريقان في لعب حماسي. بعد عدة جولات وتعادل الفريقين في جولات اللعب قرروا الاستراحة. عادوا للجلوس في الظل الذي انحسر كثيراً. أخرج قطعة الخبز وقسمها نصفين وأعطى أحدهما لأخيه وأعاد النصف الآخر إلى جيبه.
أقبل من طرف الساحة أحد أبناء صفه يقود سيارة مصنوعة من الأسلاك، الولد المدلل كما يلقبونه، مرتب الهندام، يتفنن أمامهم متباهياً بقيادتها يميناً ويساراً باستعراض ظاهر. عندما وصلهم استفسر ناصر منه كيف يمكنه أن يصنع مثلها. تصنّع الولد المدلل صوت الخبير: اشتريت بخمسة قروش أسلاك من عند الشريف الناجي، ويوجد عندنا عدة، شاكوش وكماشة وزرادية، وأبوي ساعدني. فهم من ذلك أن المدلل يريد أن يقول له “أنت لن تستطيع عمل مثلها”، فلا قروش لديه، ولا أب سيجد الوقت ليساعده، ولا أدوات لديهم مثل التي ذكرها هذا المتباهي. تركه محاولاً إظهار عدم اكتراثه بالأمر، على الرغم من أنه كان يغلي غيظاً من الداخل. قال لأصحابه الجالسين في ظل الجدار إن بإمكانه عمل سيارة أسلاك، وأن الأمر ليس صعباً كما حاول المدلل أن يظهر.
عندما اشتد الحر عاد مع أخيه إلى البيت. كلما حاول أخوه أن يتحدث معه أو يستفسر منه عن أمر يتعلق باللعبة وقوانينها، كان يجيبه باقتضاب ويطلب منه أن يعمل شيئاً. ظل شارد الذهن يفكّر فيما قاله لأصحابه بأن الأمر ليس صعباً، شعر بأنه قد وضع نفسه في تحدٍّ وأن عليه أن يثبت لهم ذلك، والأهم أن يثبت للمدلل أنه قادر على صنع السيارة.
***
ذهب باكراً إلى السياج المحيط بحديقة الحاجة لطيفة، كان سياجاً جديداً من الأسلاك الشائكة نصبه ابنها الذي جاء زائراً في بداية العطلة الصيفية. فك طرف أحد الأسلاك وحرره لمسافة كافية، وبدأ بثني السلك جيئة وذهاباً عشرات المرات حتى انقطع السلك. حمله وابتعد. فك الأسلاك المجدولة بطول نفس وتخلص من الأشواك التي تحيط بها. صار لديه سلكان طويلان، ولكنهما بعد فكّهما كانا مليئين بالإنحناءات. أحضر حجراً كبيراً منبسطاً وبحث عن حجر صلب صغير، واستعمل الأول سنداناً والثاني مطرقة، وبدأ بتصحيح الإنحناءات الصغيرة حتى استقام السلكان. ذهب إلى ورشة البناء القريبة وجمّع كمية كافية من الأسلاك الرفيعة التي يستعملها العمال لربط قضبان الحديد ثم يرمون الزائد منها. أصبح لديه ما يحتاجه لصنع السيارة.
بعد يومين كانت السيارة السلكية جاهزة. أضاف إليها سارية صغيرة وضع عليها علماً رسمه على ورقة بيضاء، وألصق في مقدمتها ورقة صغيرة عليها رقم مقلداً اللوحات التي توضع على السيارات، وانطلق إلى الساحة يقودها. كان الأولاد متجمعين وبضمنهم المدلل. تجمعوا حوله مبدين إعجابهم بالسيارة، وسأله أكثر من واحد منهم: كم كلفتك؟ من ساعدك في عملها؟ أجاب بلامبالاة وهو ينظر باتجاه المدلل: لم تكلفني أي قرش، وعملتها لوحدي، لم يساعدني أحد، أي واحد يريد أن يصنع مثلها أستطيع مساعدته، الشغلة سهلة كثير.