18 ديسمبر، 2024 6:37 م

سأطبخُ الليلة قصة قصيرة فوق نار تتثاءب. سألملم زوايا النظر كلها وأسحلها صوب خاصرة النصّ، فتحدث البؤرة التي ستتشظى تاليا فيقع تمام القصّ. فوق مائدتي قلم رصاص ودفتر صغير، وفي أول الزقاق بيت عتيقٌ مهجور منذ أن حطّت عليه عيناي قبل عشرية من سنوات بائسات يابسات. أهل الحارة يسمونه البيت المسكون ويتحدثون عن صفق شبابيك ليلية وصرير أبواب صدئة، وأنين مكتوم يشبه ذلك الذي تطلقه جثةٌ نائمة بثلاجة موتى جدد.

القصة الشائعة تفيد بأنّ العائلة التي كانت تستوطنه، قد فقدت ثلاثة من تعدادها في ليالٍ غامضة، وكان آخرهم الأب الضئيل الذي اختفى في ليلة مبدرة وهو جالس يدندنُ في حديقة الدار الكبيرة. في اليوم التالي وجدوا في المكان ساعته الثمينة التي ورثها من الجدّ الأكبر، وحبات متناثرات من مسبحته السوداء. في النهار المشمس يبدو المنظر طبيعياً وحيوياً، والحديقة تعيد تزهير نفسها بنفسها. نخلة واحدة عالية لا تنوء بحملها، وسياج طويل من وشل الياسمين. كرز أخضر وأحمر ومشمش وتفاح وليمون وفاكهة أخرى لا أحد يجرؤ على الاقتراب منها وقطفها، فهي محروسة بقوة الخرافة وجبن الأطفال.

سأتوقف قليلاً أو طويلاً أمام دكان أحمد الجاحظ المزروع بمواجهة الدار المخيفة.

أحمد الفلسطيني هو من الكائنات التي ليس بمقدورك أن تكرهها، وكان قد نزل هنا قبل ثلاثين سنة وافتتح دكاناً صغيراً لبيع السكاكر والمكسرات. في البدء خلتهُ مجنوناً إذ كان ينزرع فوق كرسيّ بائد بباب الدكان ويحدث نفسه بلغة الإشارة، صحبة ابتسامات بلهاء يوزعها على المارة الذين يردّونها عليه بامتنان وحب. لحمادة النبيل غرفة صغيرة ينام فيها ويسكر، وحيث تلعب الخمرة برأسه الضخم، فإنه يقوم بفتح صوت المسجل حتى أقصاه، وعلى آخر عيطات وآهات أم كلثوم، سيكون بمقدورك وأنت تمرّ بباب الدكان أن تنصت لسمفونية خالدة من شخيرٍ عظيم. ذات ليلة شتائية هائلة كنت صحبة الأشعث بغرفته البائسة، وعلى نغمة رنين كؤوس العرق السمين، سألني من أيّ بلاد جئت يا تعيس قلت من بغداد يا نسيب.

سكتَ وأنزل رأسه وبصم حنكه فوق صدره الشائب، ثم فزَّ مثل بركان طالت نومته ودار حولي خمس دورات كما درويش مستوحش، بيمينه يقبض على الكأس وبشماله سيجارة ممصوصة حتى الموت.

قبل أذان الفجر بكأس واحدة، دخل حمودي باب الصمت. كان بودي أن أسأله عن طلسم البيت القائم في أخير الزقاق، لكنني خفت من شرر عينيه الحمراوين، فتركته يغازل بهما القصر المهجور ومدفن أيامه البعيدة.
نقلا عن العرب