23 ديسمبر، 2024 2:13 م

سنغافورة صرح كبير للعلم والتكنولوجيا

سنغافورة صرح كبير للعلم والتكنولوجيا

أثار مقال “علينا ان نتعلّم من سنغافورة” لعالم الاجتماع العراقي د. إبراهيم الحيدري* شهيتي للكتابة حول تجربة سنغافورة بسبب ارتباطي الكبير بهذه الجزيرة لسنوات عديدة بدأت في بداية التسعينات من القرن الماضي حيث ساهمت مساهمة فعالة في تطوير علم البيولوجيا الجزيئية والخلوية ومساعدة جامعة سنغافورة الوطنية في بناء القاعدة العلمية لأبحاث زراعة الخلايا وإنتاج العقاقير الطبية التي أشار إليها د. إبراهيم تحديدا باقتباس قول كي كوان يو، بان سنغافورة قامت “بتأسيس المعهد العالي للجينات البيولوجية، فاستقدمت خبراء من بريطانيا والسويد واليابان وعملوا معهم بجد ومثابرة على مستوى دولي، وبذلك تطورت لديهم صناعة متطورة للعقاقير الطبية”. وهي إشارة واضحة إلى العمل الرائد الذي ساهمت به في تلك السنوات. وفي فترة أرادت سنغافورة ان تبني صرح البيوتكنولوجيا كإحدى الركائز الرئيسية للاقتصاد السنغافوري حيث دعت مجموعة من العلماء البريطانيين للتشاور معهم وكنت احدهم. وخلال الزيارة ألقى كل منا محاضرة للشباب حول أهمية اختصاصه غرضها إثارة اهتمام الطلبة بهذه المواضيع الحديثة حضرها اكثر من ألفي طالب من المدارس الثانوية وكان هذا رقما قياسيا لي بالنسبة لعدد الحضور. قيل لي بان الحضور كان على حسب رغبتهم ولم يسوقوا كقطعان الغنم كما هو عليه في بلداننا. ومن ذلك الوقت لم أستغرب أبدا لأي إنجاز علمي يظهر فوق هذه الجزيرة، وبدا لي طبيعيا ما أورده د. إبراهيم حول مفردات معجزتها الحضارية.

وكأي بلد في العالم على طريق التطور (فيما عدا البلدان العربية!) اعتمدت سنغافورة على العلماء ذوي الروابط العرقية ومن الأصل الآسيوي الصيني تحديدا حيث كان هؤلاء من اكثر المترددين على الجزيرة ومن استمروا في تعاونهم وتقديم خبرتهم وعلمهم إلى إخوانهم في العرق. مع هذا فما يميز سنغافورة وربما يقربها من حالة العراق هو تعدد الأديان والثقافات. فبالإضافة للصينيين يوجد المسلمون الماليون والهنود والأوربيون. وهذا هو جل التشابه ونهايته حيث تتميز سنغافورة بأعلى درجة من التسامح الديني والعرقي بتمثيل كل الأقليات على كافة الصعد المحلية والحكومية. ومن مميزات سنغافورة التي لم يطرقها د. إبراهيم هي اللغة الإنكليزية التي تعتبر اللغة الأولى ويجيدها كل المواطنين بالإضافة إلى لغات الأم الأخرى، وهو ما اصبح عاملا موحدا وبوابة انفتاح نحو الحضارة الغربية، ليلتهم السنغافوريون منها المعرفة والعلم والتكنولوجيا والأدب والفن. الركيزة الرئيسية بدون شك هي قيادة الدولة الاستثنائية بكل المعايير. على سبيل المثال، اصبح الدكتور كوه كنج سوي، نائب رئيس الوزراء في الفترة 1973 إلى 1984 مستشارا للزعيم الصيني دنغ شياو بينغ، ويعتبر لي كوان يو، أول رئيس وزراء لسنغافورة ومؤسس الدولة الحديثة احد افضل القادة في عصرنا الراهن بالرغم من أننا في البلدان العربية لم نسمع به ولا نعرف عنه شيئا. قالت لي زميلتي البرفيسورة ميرندا ياب التي درست في هارفارد ان هنري كيسنجر كان يكن لرئيس الوزراء السنغافوري احتراماً كبيراً، ومن قصصه المفضلة هي ان لي كوان يو، بالرغم من التقدير والدعم الكبير الذي كان يلقاه من الإدارة الأميركية، قال ذات مرة أمام مجموعة متميزة من أساتذة جامعة هارفارد في ذروة حرب فيتنام ” انتم تثيرون اشمئزازي” في إشارة إلى تورط أميركا في الحرب القذرة ضد الشعب الفيتنامي.

كيف تحولت سنغافورة من بلد نام من دول العالم الثالث إلى دولة متقدمة ومتطورة في خلال أربعة عقود من الزمن. السر يكمن في قوة النظام التربوي والتعليمي حيث تحتل سنغافورة منذ سنوات، أعلى المراتب في السلالم الدولية التي تقيس قدرة الطلاب في القراءة والرياضيات والعلوم. بني النظام التربوي على ضروريات توفير الاستقرار والرفاهية لبلد متعدد الأعراق من خلال تنفيذ سياسات تسمى “سياسات البقاء”، هدفها تحقيق تماسك اجتماعي بين المواطنين ومنحهم فرص عمل وسكن صالح وتعليم كفء، وصحة وافرة، وفيها يرتبط التعليم إلى درجة عالية بالتدريب وبحاجة السوق، وتعطى أولوية إلى النمو الاقتصادي وتكوين مؤسسات إنتاجية جديدة وبناء رأس المال البشري قبل توزيع الموارد، ولكي تتم المحافظة على انتعاش الاقتصاد كان لابد له ان يكون مبنيا بالضرورة على التنافسية حتى في التعليم المدرسي والجامعي. ونجاح سنغافورة كدولة، يعود إلى كون السياسات الاقتصادية والتربوية براغماتية، وليس أيديولوجية بحيث تؤكد دائما على أهمية الجهود ومعايير الجودة. وتؤكد سياسات التعليم على تحقيق الجدارة في مواضيع ثلاث رئيسية وهي العلوم والرياضيات واللغة الإنكليزية. أما في التعليم العالي فتؤكد سياساتها على التعليم التكنولوجي والمهني في معاهد تقنية وبولي تكنيك. وهناك خمس جامعات تضم 27% فقط من الطلبة المؤهلين لولوج التعليم العالي.

يوفر التعليم احتياجات القرن الحادي والعشرين بصورة ابعد من مجرد القراءة والكتابة ألا وهو حل المشاكل والاتصال والمحادثة، ويؤهل التعليم الطلاب للتعليم الذاتي مدى الحياة. وكاستجابة للعولمة تهتم المدارس بإعداد الطلبة لوظائف مستقبلية لا تتوفر حاليا، فهي تعدهم للمستقبل عن طريق تخليق الأفكار الجديدة وإيجاد حلول لمشاكل مرتقبة باستخدام تقنيات لم يتم اكتشافها حاليا. هكذا تعد سنغافورة طلابها للمستقبل.. لذا ليس من الغريب ان نسمع ان سنغافورة تعيش في المستقبل. اصبح رعاية وتعزيز ثقافة الابتكار والإبداع عنصرا مهما في التعليم لغرض إعداد الطلاب للمستقبل لذا تجد المدارس في لجة لا هوادة فيها تبحث عن التغيير وطرق التحسين عبر ممارسات مبتكرة وأساليب تربوية جديدة.

ابتدأ “الانفجار الكبير” لإصلاح التعليم في عام 1987 وما زال مستمرا إلى يومنا الحاضر وذلك عندما شعرتْ الدولة بضرورة تحويل الاقتصاد من اقتصاد معتمد على كثافة العمالة إلى اقتصاد معتمد على كثافة التكنولوجيا، وبسبب عدم القدرة حينئذ على التنافس مع الصين ودول جنوب شرق آسيا الأخرى حيث تتوفر العمالة ذات الأجور الواطئة بينما تنخفض مستويات المهارات التكنولوجية العالية. ومن أجل إحداث التحول الاقتصادي الناجح احتاج النظام التربوي والتعليمي في سنغافورة إلى إحداث ارتباط قوي بين تدريب القوى العاملة وأولويات الاقتصاد وذلك عبر نظام تعليم يرّكز على العلوم والتكنولوجيا وعلى اللغة الإنكليزية كلغة للتواصل مع المستثمرين وأسواق التصدير، ويركز أيضا على تدريب قوى عاملة ذات مهارات صناعية ذات علاقة بأولويات الاقتصاد.

لم يكن لأعداد الحاصلين على شهادات البكالوريوس الجامعية أهمية اكثر من أهمية توفير قوى عاملة من حملة شهادات الدبلوما ويمتلكون مهارات حرفية تخدم تطور الاقتصاد، لان الأولويات كانت وما زالت هي تدريب أجيال تدريبا تكنولوجيا عاليا لكي تنافس سنغافورة الدول الصناعية الكبرى. ولتحقيق هذا الهدف وفّر النظام التربوي الثانوي مسارات ومواضيع عديدة ومختلفة لتتناسب مع القدرات المتوفرة والاحتياجات الوطنية، فعلى سبيل المثال يتجه حوالي 30٪ من الطلاب الأقل قدرة أكاديميا أو ميلا للعلوم الصرفة إلى دراسة المواد المهنية والتقنية، وتبني المدارس علاقات وثيقة مع معاهد التعليم الفني ويساعد هذا وجود ثانويات متخصصة في الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا والمستقبل. ولكي تحقق المدارس هدفها بكفاءة عالية يمنح كل مدرس 100 ساعة من التطوير المهني كل عام، وتوفر فرص كثيرة لإجراء البحوث للحصول على شهادات عليا مع شرط بقائهم في التدريس الثانوي بالإضافة إلى توفر التدريب المستمر لمدراء المدارس، والنتيجة ان سنغافورة قد خلقت نظاماً تربوياً وتعليمياً راقياً يضمن درجات عالية من التدريب والتعليم المستمر للقوى العاملة من خريجي المعاهد والكليات والجامعات على حد سواء، واستطاعت عبر ربط التعليم بأهداف الاقتصاد ان تخفض معدلات الهدر وهجرة الكفاءات إلى الخارج إلى اقل المعدلات العالمية.

ويمكن تلخيص منجزات نظام التربية والتعليم السنغافوري بالآتي: 1- تحديد الأولويات الوطنية الرئيسية والهامة في بناء القدرات لغرض تخصيص الموارد. 2- اتخاذ قرار اعتماد الإنكليزية كلغة وطنية أولى في وقت كانت نسبة المتحدثين بالإنكليزية اقل من 20%. 3- استجابة قوية من قبل المدارس والمعاهد والجامعات لاحتياجات سوق العمل. 4- تركيز قوي على ثنائية اللغة وتعدد القيم والأديان. 5- تنوع الدراسات والشهادات على أساس احتياجات سوق العمل حيث يذهب 27% من طلبة الثانويات إلى الجامعات و 40% إلى البوليتكنيك (الكليات التقنية)، و 20% إلى المعاهد التقنية. 6- تحديث المناهج بصورة مستمرة مع التركيز على العلوم والرياضيات واللغات والتكنولوجيا. 6- بناء أسس تربوية قوية في الطالب أولا، و بعدها تتوفر له المرونة والتنوع في الاختيار.

ان نجاح سنغافورة اعتمد بدرجة كبيرة على نجاحها في جعل نظام التعليم جهازا للتدريب لإشباع مطالب سوق العمل الوطني، وأولويات الأسواق العالمية، والتأكيد على التعليم المهني والتقني لغرض تعزيز قدرات ومهارات القوى العاملة، واعتبار هذا النوع من التعليم متفوقا في محتوياته ونتائجه على التعليم الاكاديمي النظري البحت. في يومنا هذا يعتبر معهد التعليم التقني في سنغافورة من افضل المعاهد التقنية في العالم، ويمثل صورة رائعة تفتخر بها هذه الدولة.

نصيحتي لوزارة التعليم العالي ووزارة العلوم والتكنولوجيا ووزارة التربية وهيئة التعليم التقني دراسة هذه التجربة عن طريق إيفاد مختصين إلى سنغافورة والى مراكز المعهد ومشاركة زملائهم السنغافوريين في الإدارة والتدريب لاكتساب الخبرة والمعرفة بصورة مباشرة.