23 ديسمبر، 2024 5:41 ص

سماء الفينيق لمفلح العدوان

سماء الفينيق لمفلح العدوان

سماء الفينيق للأديب مفلح العدوان الصادر عام 2014. يقع الكتاب في 126 صفحة.
في هذا الكتاب يصف مفلح العدوان رحلته القصيرة إلى فلسطين(الضفة الغربيّة)، يرافقه طائر الفينيق. وطائر الفينيق طائر أسطوريّ، يرمز إلى التجدد والخلود والانبعاث والتصدي، وهذا هو حال الشعب الفلسطيني في صموده وتجددّه وانبعاثه.

محمّلا بالحنين والشوق يصل مفلح العدوان إلى جسر الملك حسين ويتذكر مقهى حنا السرياني فيقول:” الآن.. ها أنا أتأمل بقايا أطلال «قهوة حنا»، وأختار حجرا لأجلس عليه، وأصمت في حضرة أطياف بشر أتخليها تحوم بذاكرتها في المكان، أحدق أكثر في اللامرئي، لأعيد تأثيث المقهى كما كان قبل أكثر من ثلاثين عاما،

وكأن تلك الملامح والتفاصيل تنمو معيدة تشكيله مرة أخرى، لدقائق قبل أن أغادر.. أغمض عيني، فتنفتح شاشة معتقة بالأبيض والأسود لـ«قهوة حنا»: الجدران

الأشجار، الطاولات، الكراسي، ثرثرة المسافرين، رائحة النعناع في كاسات الشاي، فناجين القهوة تدور على الناس، وزجاجات خضراء يلقونها في مجرى السيل؛ لتبرد قبل أن يطفئ بها المسافرون حرارة الغور.(ص 16).

هذا الوصف الدقيق المحمّل بالذاكرة والحنين، يأخذ القارئ في رحلة العدوان إلى فلسطين، فيمتطي معه طائر الفينيق، محمّلًا بالحنين وروعة الاستكشاف والتاريخ بتفاصيله الصغيرة والكبيرة.

يسقلّ مفلح العدوان الحافلة متوجها إلى فلسطين:” من على ضفة النهر تسير بي الحافلة، وأنا روحي، في حقيقة توثبها، التي لا يحسها أحد سواي، تمتطي صهوة الفينيق”(ص 22).

ينتقل مفلح العدوان الى أريحا ثم رام الله، فيزور ضريح الشهيد ياسر عرفات ومتحف محمود درويش ودوار المنارة، ثم نابلس فيزور سوق الخان، مسجد الحنبلي، حارة الياسمينة جامع الساطون، قصر عبد الهادي، حارة السمراء. كما يزور بيت لحم، والخليل وبيت تعمر، ثم زيارة افتراضية الى القدس، حيث منعته قوات الاحتلال من دخولها، لكنه يدخلها افتراضيًّا مع طائر الفينيق:” أمتطي صهوة الفينيق الذي أخذ عهدا على نفسه، بأن يكون قريبا مني، لأرى بأم عيني ما أريد أن أرى، حتى إذا ضاقت بي الأمكنة والحواجز ونقاط التفتيش وإشارات المنع، جاءني طائري، فإما أن أمتطيه لأصل ما انفصل، أو يتجلى لي سر الفينيق بمنحه لي عينا ثالثة، يسكنني بها مفتاح كينونته، لتنبعث الأمكنة التي منعوني عنها والأحداث التي حجبوها عني ويعاد فعل تشكيل الأشياء والتفاصيل، كنعانية الجوهر، كما كانت قبل فيض من الزمان، وكما ستكون عليه حالها بعد الآن، متجددة كما هو الفينيق في انبعاثه، وتساميه، ودورته حياة، وراء حياة.(ص 22).

يتمكّن مفلح العدوان من استحضار تاريخ القدس وعبق أسواقها وبواباتها وكنيسة القيامة والمسجد الأقصى وينتشي قلبه بالإيمان. وكأني به ينطق باسم المنفيين الممنوعين من الدخول الى وطنهم، فيقدّم لهم البديل: رحلة افتراضية مع طائر الفينيق.

يعرّف الباحث ادوارد سعيد المنفى بقوله:” إنّ المنفى حالة دائمة من الغربة والابتعاد والإقامة في الهامش، هو هجرة مستمرّة لا يمكن عكسها، ومن ثمّ هو صيغة من صيغ الوجود، تولّد شعورا متواصلًا بالانشقاق عن السياق والحنين الدائم إلى ماضٍ وأرض وثقافة، لم تعد كلّها موجودة في المنفى، فهو الصدع الذي يصعب شفاؤه، ويفصل بصورة قسريّة بين المرء ومسقط رأسه؛ بين الذات وبيتها الحقيقيّ: إنّ الحزن الجوهريّ الذي يولّده لا يمكن التغلّب عليه. فالمنفى انقطاع عن الأرض الصلبة التي كانت توفّر للمرء الهويّة وصلابة الإحساس بالأمن والطمأنينة؛ ذلك أنّ المنفيّين “مقطوعون عن جذورهم، وعن أرضهم وماضيهم. إنّهم في العادة بلا جيوش أو دوَل، لكنّهم في حالة بحث عنها. لذلك يشعر المنفيّون بالحاجة الملحّة ليعيدوا تشكيل حياتهم المدمَّرة من خلال رؤية أنفسهم كجزء من أيديولوجيا ظافرة أو أمّة حيّة”. (سعيد، 2004، ص177).

وهنا يحضرني تساؤل جال في خاطري وأنا أكتب هذه السطور، لو كان ادوارد سعيد لا زال على قيد الحياة، هل سيغيّر من تعريفه للمنفى؟ وهل سيضيف أن المنفيّ قد يعود إلى وطنه على جناحيّ طائر الفينيق؟ وأنه بإمكانه زيارة الوطن افتراضيّا مستحضرا كل ما يعرفه من تاريخه العريق وحضارته وتراثه وأغانيه؟

إن سماء الفينيق رحلة إلى فلسطين صيغت كلوحة فسيفساء تجمع مدن فلسطين بجميع أطيافها ودياناتها المتآخية، وأماكنها وأحيائها ومبانيها وتراثها وأغانيها، هذه اللوحة ازدانت بالتناص والأغاني والأناشيد الدينية والصلوات والأماني، تكللت بالحنين والعشق والتصوف الذي زادها هالة وجمالا، فبدت وكأنّ طائر الفينيق يحرسها ويبعث فيها الحياة والأمل بالولادة من جديد.