بدأ تشيخوف دراسته في كلية الطب بجامعة موسكو عام 1880 وتخرج فيها عام 1884 واصبح طبيبا, ولكنه لم يستمر بعمله في مجال الطب وانتقل الى الادب الذي عشقه وكرٌس حياته له , وهكذا اصبح اديبا عالميا كبيرا, وقال تشيخوف مرة – وكان يمزح كعادته – ان مهنة الطب هي ( زوجته ) اما الاداب فهي ( عشيقته ),واجابة على التساؤلات التي أمطرني بها الاصدقاء والزملاء عن سبب نشري في السنة الماضية عشرات المقالات حول الادب الروسي, اود ان اقول لهم ما قاله تشيخوف( مع الفارق الكبير والشاسع طبعا بيني وبين المبدع الكبير تشيخوف ) ,ان العراق امي وابي وروسيا زوجتي وادابها عشيقتي, واود ان اقول لهم ايضا , باني بدأت بحملة للبحث عن زملائي في مهنة ( العشق ) هذه , ووجدت ان الفلسطيني سليم يوسف قبعين ( 1870 فلسطين – 1951 مصر ) هو واحد من رجالات هذا العشق للادب الروسي وانه يعد بحق من اوائل عشاق هذا الادب في عالمنا العربي , واريد ان اقدمه للقارئ واتحدث عنه قليلا , كي لا يتهمني الاصدقاء والزملاء باني ( العاشق الوحيد) في هذا المجال, علما ان هناك عشاق آخرون كبار, يستحق كل واحد منهم ان نقدمه للقراء ونتحدث عن انجازاته.
ولد سليم يوسف قبعين عام 1870 في مدينة الناصرة بفلسطين, ودرس في المدرسة الروسية الفلسطينية الارثذوكسية في تلك المدينة , ثم أكمل دراسته بعدئذ في دار المعلمين الروسية في الناصرة ايضا , ثم بدأ بالعمل في المدرسة الروسية الفلسطينية مدرسا, وانتقل عام 1897 الى القاهرة , وأصدر هناك صحفا ومجلات مختلفة , وقام بنشر سلسلة من الكتب وأسس مطبعة للنشر, واستمر في نشاطه الفكري هذا في مصر الى حين وفاته في القاهرة عام 1951
لقد اعطت المدارس الروسية الارثذوكسية في فلسطين , والتي تم تأسيسها في القرن التاسع عشر, مجموعة من المتخصصين في اللغة الروسية وآدابها, والتي ساهمت بترجمة هذا الادب الى اللغة العربية مباشرة عن اللغة الروسية (وكم هو مؤسف ان هذه المدارس قد توقفت بعد ثورة اكتوبر 1917) , ولعل ابرز تلك الاسماء هو الاديب اللبناني الكبير ميخائيل نعيمه , ويعد سليم يوسف قبعين ايضا واحدا من تلك الاسماء بلا شك,الذي اصدر العديد من الكتب حول الادب الروسي , ويرتبط اسم قبعين قبل كل شئ بتولستوي, والذي كان اكثر من معجب به, اذ يمكن القول انه كان من انصار افكاره وفلسفته لدرجة انه حاول ان يؤسس في مصر مزارع تعاونية على غرار ما كان يحدث في روسيا آنذاك من قبل أنصار تولستوي , الذين حاولوا تطبيق آرائه بالحياة في القرية وتأمين احتياجاتهم الحياتية عن طريق العمل اليدوي في الارض مباشرة , وهكذا اصبح قبعين اول عربي يصدر كتابا عن تولستوي وكان بعنوان – ( مذهب تولستوي )عام 1901, وهو عنوان مثير يوحي للقارئ ان تولستوي قد جاء بمذهب جديد محدد الابعاد , ولكن هذا الكتاب في الواقع كان يتضمن ترجمة لثلاثية تولستوي – ( الطفولة / الصبا / الشباب ), ولكن تلك الترجمة كانت بتصرف كبير جدا قام به المترجم انطلاقا من حبه لتولستوي واعتزازه به ومحاولة لنشر افكاره وفلسفته ورسم صورة مثالية له, واصدر قبعين بعد ذلك كتابا آخر لتولستوي بترجمته وهو قصة تولستوي المعروفة– ( لحن كريتسر) عام 1904 ومارس نفس التصرٌف في ترجمته تلك حتى في العنوان اذ انه اضاف اليه كلمتي- ( الوفاق والطلاق) لدرجة ان المستشرقة الروسية آنٌا اركاديفنا دولينينا كتبت مقالة عن ذلك واعتبرت هذا التصرف غير صحيح من قبل المترجم لنص تولستوي, ولم تأخذ هذه المستشرقة بنظر الاعتبار منطلق سليم يوسف قبعين في تلك السنوات , عندما كان العالم العربي يرزح تحت حكم الامبراطورية العثمانية , وانه كان بأمسٌ الحاجة الى أصوات تتكلم عن مبادئ جديدة و كان المترجم وغيره من المثقفين يحاولون – كل حسب امكانياته وموقعه – ان يبشربها وينشرها بين القراء العرب آنذاك وخصوصا الموقف من المرأة وتحريرها وقضايا الزواج والطلاق في الشرق العربي. لقد استعان سليم يوسف قبعين بتولستوي من اجل ان يقول كل تلك الآراء ويعلنها , ولكن المستشرقة اعتبرت ذلك خرقا لقواعد الترجمة وامانتها الاكاديمية, وربما يمكن القول الآن, ان قبعين كان على حق فيما ذهب اليه انطلاقا من روح عصره , وان المستشرقة كانت على حق ايضا عندما انتقدت هذا التصرف في ترجمته تلك انطلاقا من روح عصر آخر. أستمر سليم يوسف قبعين في مسيرته تلك , واصدر عام 1904 كتابا آخر عن تولستوي بعنوان – ( انجيل تولستوي وديانته) وهو ترجمة ايضا لمواقف الكاتب الروسي تجاه الكنيسة وطقوسها واحكامها , والتي عارضها تولستوي كما هو معروف لدرجة ان الكنيسة الروسية اعلنت موقفها الصريح ضده , والتي ادٌت في نهاية المطاف الى رفض الكنيسة دفن تولستوي حسب تعاليمها وطقوسها,وعاد قبعين الى هذا الموضوع مرة اخرى عام 1909 واصدر كتابا جديدا حول موقف تولستوي وافكاره الدينية بشان جهنم , وفي تلك السنة ايضا اصدر ترجمة لمسرحية تولستوي – ( سلطة الظلمة ) , وبعد 3 سنوات ترجم كتابا آخر لتولستوي بعنوان (حكم النبي محمد ) , وهو كتاب شهير ترجمه تولستوي نفسه عن الانكليزية للباحث الهندي عبد الله السهروردي, وتكمن اهمية هذا الكتاب قبل كل شئ للقارئ الروسي طبعا , اذ توجد هناك مجموعة مختارة من الاحاديث الشريفة لنبينا الكريم محمد (ص), والتي ادهشت تولستوي بعمق مضامينها , والتي اراد ان يعرضها للقارئ الروسي ويبين له سبب احترامه الكبير والهائل لشخصية الرسول العربي ومكانته المتميزة , وقد انتبه قبعين الى ضرورة ان يقدم هذا الكتاب للقارئ العربي كي تكون الافكار الدينية لتولستوي متكاملة امام هذا القارئ, وهو موقف موضوعي وعلمي رائع من قبله. واصدر المترجم عدا تلك الكتب اصدارات اخرى في الادب الروسي , منها – ( انشودة الحب )لتورغينيف , و ( ربيب بطرس الاكبر ) لبوشكين, و ( قصص روسية ) لغوركي, و ( قصص ) لتولستوي, و(من اعلام القصة الروسية ), ولم يقتصر نشاط قبعين على الادب الروسي وحسب, بل شمل ايضا التاريخ الروسي, واصدر عدة كتب في هذا المجال منها كتاب بعنوان ( تاريخ آل رومانوف ) وكتاب آخر بعنوان ( مصرع القيصر نيقولا آخر قياصرة روسيا).
سليم يوسف قبعين – واحد من رواد المثقفين العرب, الذين درسوا اللغة الروسية واتقنوها , وترجم عنها الى العربية , وقدٌم للقارئ العربي تولستوي فيلسوفا ومفكرا وفنانا قبل كل شئ, وعرض لهذا القارئ كذلك صورة واسعة لادب روسيا وتاريخها وحضارتها في زمن لم يكن هناك اي تصوٌر لدى العرب عن ذلك تقريبا, ولهذا فانه يستحق ان ندرس ترجماته وتراثه ونحدد مكانتها اللائقة بها ونقدمها للقارئ المعاصر حسب ابعادها الحقيقية التي تتلائم مع روحية ذلك العصر البعيد وخصائصه, ومن حقه علينا ان نؤرشف تراثه ونعيد نشره مع شرح وهوامش تشير الى تلك الاضافات التي ادخلها بين سطور ترجماته , كي تتعرف الاجيال الجديدة على هذا الجهد الفكري لهذا المثقف الكبير, الذي كان يجسد تلك المرحلة المبكرة في مسيرة ثقافتنا وتفاعلها مع ثقافة العالم من حولنا.