19 ديسمبر، 2024 2:16 ص

سليمان من اندونيسيا وصالح علوان من نهرخوز

سليمان من اندونيسيا وصالح علوان من نهرخوز

السعاده والفرح امران نسبيان . والموضوع هنا يتعلق بحس انساني ، وجداني .
“سليمان ” وهذا اسمه ، رجل من اندونيسيا ، كناس في الشوارع ، رب عائله واطفال كثر . كان حظه من الحياة ان يكنس وينظف الشوارع ، وان ، لكي لاانسى ، تزوج ، بفضل امه ، ويلقبونها بالحاجه دون ان تحج ، من امرأة هي في السلم الاجتماعي في الحاره التي سكنوها ، اقل ” مرتبة ” من السيد سليمان بسبب وفاة والدها وهي طفله وظهور رجل اخر في حياة أمها . السيد سليمان هذا ، أخذ الامر اكثر جدية عندما وبفضل ” واسطه ” لدى مدير البلديه من الميرزا عبد الغفور تم تعيينه ” كناسا ” في الحي المقابل لمركز البلديه ، وهو حي عرف بساكنيه من ” البرجزيه ” – هكذا يسمونهم في هذا الحي – اي من أولئك اللذين انعم الله عليهم دون غيرهم خيراته ونعمه ، ولا تقول لي ، ارجوك ، لماذا ؟
قبل ان استرسل في هموم والام السيد سليمان ، كان يجب علي ان اذكر شيئا ولو باليسير عن الميرزا عبد الغفور ، فلقب ال ” الميرزا ” الذي لقب واشتهر به لم يبعث لديه ، ولو لبرهه ، اية طمأنينة . فلا هو ” حاج ” ولا هو ” ملا ” ولا اي شي اخر . ببساطه كان هذا اللقب بمثابة عبء ثقيل عليه . لقب هلامي ، لاذكر ولا أنثى كما يقولون . ولكن الميرزا عبد الغفور ذاته هو الملام وهو المتسبب في إلحاق هذا اللقب ” الأخاذ ” بذاته . الميرزا عبد الغفور ينكر هذا وسوف تلحقه الحمى وتورد الوجنتين عندما تنساق روءى احلامه بجانب زوجته في المنام عن مصدر هذا اللقب ، الذي كني فيه وهو في هذا لاملام ولا متسبب . والحقيقه التي لايريد السيد عبد الغفور ذكرها تعود الى أعوام خلت عندما في أعقاب انتهاء الحرب العالميه الثانيه وانتصار الحلفاء ، كانت اندونيسيا جزءا من المملكه الهولنديه ولغاية عام 1949 حينما نالت استقلالها . حينها كان ” عبد الغفور” ، ” عبد غفور” فقط وأحيانا كان شباب الحي يسمونه دلعا ب “غفوري ” بدون لقب ، ولكن هذا ال ” عبد الغفور ” استطاع بحنكته ان يكون وسيطا للهولنديين مع التجار المحليين في تسويق المؤن الغذائيه . ساعدته في ذللك معرفته المتمكنة في اللغه الانكليزيه والهولندية . وكان ان اغتنى السيد عبد الغفور في ضحى ليله . ويشهد الحق ان عبد الغفور هذا لم يكن بحاجه الى ان يتوغل في قراءة واستيعاب ” ميكيافيلي ” في ممارسة ألاعيب الحياة ناهيك عن السياسه ، بل ان سليقة موهبته ، التي حباه به الله منذ ان استقبل الدنيا ببكاءيه الولاده ، كانت بالنسبة اليه درس وما اعتاه من درس في ان : اقتنص الفرصه ، بل حتى طيفها ، حينما تحين لك . لاتتردد . ان لم تفعل ذللك ستكون الخاسر والنادم ! هكذا فعل السيد عبد الغفور حينما اتجهت اليه الناس في اقتراض المال . كان امام ” عبد الغفور ” حلين لاثالث لهما : اما ان يرفض وأما ان يقبل . ان يرفض يعني ان المال الذي في حوزته سيكون بلا حركه ، وبالتالي دون نفع ، بل وسيضحى عبأ عليه من حيث ان عليه تأمين حمايته ووو … وأما ان يقبل ولكن بشروطه . اي نعم بشروطه . كيف ؟ هل عليه ان يقدم قرضا بسعر فائده ؟ ان فعل ذلك سيكون بالضد من تحريم الربا في الاسلام ، وهو الذي عرف عنه بمواظبته الأسبوعية ليوم الجمعه في الصلاة . مشكله حقا ! ولكن ثقابة وحس ابي الحسنين ، هكذا سمى ابنه البكر كانت له المعين : كيف ؟
انه كان يقرض المال ولكن ليس بحكم كون المال مالا وإنما بحكم كونه سلعه . اي نعم . للتوضيح : ( يبيعك ) ، مثلا ، الف دينار في هذا اليوم من هذا الشهر من هذه السنه ب الف ومائتي دينار ، ولكنه ( سيشتري ) منك هذه ” الألف والمائتين ” في ذات اليوم من ذلك الشهر في السنه القادمه حيث عليك إطفاء دينك هذا ( بموجب الكومبياله الموقعه والموثقة من قبلك ) بألف دينار ! والفرق في هذه الصفقه هو مائتي دينار كربح تجاري لاغبار عليه ولا هم يحزنون ! ولكن السيد عبد الغفور لايكتفي بذلك وإنما يضيف مكرمات اخرى لخدماته من قبيل شراء اعباء ديون اخرين عجزوا عن تسديد مديونياتهم لآخرين مقابل ، وهنا تكمن الصفقه المربحة لمولانا الميرزا ، رهن عقارات أراضي وممتلكات . كل هذه الصفقات يحرص السيد عبد الغفور ان تكون موثقه ب ( كومبيالات ) تحمل كل الصفه القانونيه من حيث النفاذ . هكذا فان الميرزا عبد الغفور اضحى في مخيلة العامه الرجل الذي لابد من وجوده ، فهو الراضي والمرتضى وهو المرتجى والموءمول وهو اذ يتسوق يوم الجمعة راجلا في سوق الحي وعلى راْسه الكديشه فارسية التطريز يشعر سكان السوق انهم في أمان ، وفي أمنية اي واحد منهم ان يقدم ولو بشيء ” أقول ولو بشيء ” استرضاء لمولانا الميرزا . فلقد انعم الباري عز وجل عليهم بهذا الرهباني ، الوجل ، الذي لايتردد أبدا ، مَرْضَاة لله ، ان يقدم العون لهم .
هذا عن الميرزا عبد الغفور .
اعود الى موضوعنا عن السيد سليمان ، فلا ارتضي لنفسي نسيانه في سياق طيب الذكر الميرزا عبد الغفور !
السيد سليمان ، وعلى الرغم من كآبته المزمنة بسبب كثرة العيال وتضخم مصاريفهم يوما بعد يوم ، نظر الى الامر من وجهة نظر مغايرة ، حيث استطاع وبحنكة ان يستخدم المال الذي يكسبه من تدوير قمامة الاثرياء في تمويل دراسة أولاده وبناته الواحد تلو الاخر ، وهم الان ، ماشاء الله ، مكتفين ذاتيا واصحاب عوائل ، ضامنين لوالدهم استمرار النسب والحسب .
ولم يكن ( صالح علوان ) من نهرخوز باقل منزلة في العلو الانساني من السيد سليمان . فهو ومُذ كان في مرتع الشباب كان كادحا بصريا . وهو، ايضا ، وياللمفارقه ، على الرغم من ان والده ( علوان ال ابراهيم ) كان ذي جاه واحوال ، من حيث كونه وكيل الشيخ خزعل ، أمير المحمره – خرمشهر – على أملاكه في البصره ، فلم يرث منه الا مجموعة أراضي ونخيل تآكلت ، لضيق الحال ، بالبيع تدريجيا . ولكن السيد صالح ، ويكنى ب ابو فاضل ، اسم ابنه البكر ، لم ييأس وهم المعيل لعائله كبيره تجاوزت العد العاشر ، فكان ان تحول ، وهو ذاك النحيف ذي القامة الوسطى الى خلية نحل منذ الشروق وحتى الغسوق في الكد حد الِمطواة . عمل بتفاني وليس بدون اخلاص ونزاهه لدى السيد ( لطيف ابن السيد علي ) . السيد علي هذا هو وليس غيره بمعيّة شقيقه ( السيد سلمان ) استحوذا تدريجيا بالشراء الرخيص أراضي ( علوان ) . هكذا اضحى صالح علوان أجيرا لدي السيد لطيف ، فهو السائق الخاص وهو المشرف على ( الجرداخ ) في موسم جني للتمور . ولم يكن السيد لطيف سوى ابن يافع لدى ابيه ، ولم يكتسب من الغنى سوى الابهه المزكاة بابتسامه غرور ، وبفدم تفكير في صرف المال آلت بالسيد لطيف الى الافلاس . وكان ان فقد ( صالح علوان ) عمله وانكب خائبا في ( الديوانية ) . بيد ان ذلك الطين الحِرِّي الذي جبل عليه ، لم يكن بالنسبه اليه سوى الاراده على مواصلة الكد والكد دون تأفف ، وهكذا استطاع إقامة بنيان انساني ، مايزال ابناءه وأحفاده على ذات النسق محافظين عليه .
سلاما .. سلاما عليك ايها السيد سليمان ، وسلاما .. سلاما على طيب ذكراك ياصالح علوان .

أحدث المقالات

أحدث المقالات