قال تعالى: {وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ…} [الأعراف: 96] وتقوى الله، وتحقيق العبودية الشاملة لله تحفظ العبد من كيد الأعداء، ومكرهم. قال تعالى: {وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيًۡٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ ١٢٠} [آل عمران: 120]، ولا شك: أنَّ تقوى الله، وعبادته، والخشية منه، وحسن الظنِّ به، والاعتماد عليه هي أول ما يجب أن يمتاز به المسلم، وأفضل ما ينبغي أن يتصف به؛ لأنَّ ذلك يجعل المسلم أسداً كاسراً، لا يعرف الهزيمة، وبطلاً مقداماً، لا يهاب المنية، وشجاعاً كراراً، لا يخشى جباراً، و لا يهاب عدواً، وهذه السمة من الإيمان، والعبادة قد تحقَّقت في القائد البطل صلاح الدين. (علوان، 2001، ص139) وإليكم ما كتبه القاضي بهاء الدين المعروف بابن شدَّاد؛ الذي عاصره، واجتمع به، وعرف أخباره، فحدَّثنا عمَّا رأى:
1 ـ عقيدته:
كان صلاح الدين الأيوببي حسن العقيدة، كثير الذِّكر لله تعالى، قد أخذ عقيدته عن الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم، وأكابر الفقهاء، فتحصَّل من ذلك سلامة عقيدته عن كدر التَّشبيه، غير مارق سهم الظر فيها إلى التَّعطيل، والتَّمويه، جارية على نمط الاستقامة، موافقة لقانون النظر الصحيح، مرضية عند أكابر العلماء، وكان ـ رحمه الله ـ قد جمع له الشيخ الإمام قطب الدِّين النَّيسابوري ـ رحمه الله ـ عقيدةً تجمع جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب، وكان من شدَّة حرصه عليها يعلِّمها الصَّغار من أولاده حتى ترسخ في أذهانهم في الصَّغر، ورأيته وهو يأخذ عليهم، وهم يقرؤونها من حفظهم بين يديه، رحمه الله!.
2 ـ الصلاة:
وأما الصلاة: فإنَّه ـ رحمه الله ـ كان شديد المواظبة عليها بالجماعة، حتى إنه ذكر يوماً أنَّ له سنين ما صلَّى إلا جماعة، وكان إذا مرض يستدعي الإمام وحدَه ويكلِّف نفسه القيام، ويصلِّي جماعة، وكان يواظب على السُّنَن الرَّواتب، وكان له ركعات يصلِّيها إذا استيقظ بوقت في الليل، وإلا أتى بها قبل صلاة الصُّبح، وما كان يترك الصَّلاة ما دام عقله عليه، ولقد رأيته ـ قدَّس الله روحه ـ يصلِّي في مرضه الذي مات فيه قائماً، وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيَّب فيها ذهنُه، وكان إذا أدركته الصلاة؛ وهو سائر؛ نزل، وصلَّى.(بن شداد، 2003، ص58)
3 ـ الزكاة:
وأما الزكاة، فإنه مات ـ رحمه الله تعالى ـ ولم يحفظ ما وجبت به عليه من الزكاة. وأما صدقة النَّفل فإنها استنفدت جميع ما ملكه من الأموال، فإنَّه مَلَك ما ملك، ومات ولم يخلِّف في خزانته من الذَّهب، والفضة إلاسبعة وأربعين درهماً ناصريَّةً، وجُرماً واحداً ذهباً صُورياً، ولم يخلِّف مُلكاً، ولا داراً، ولا عقاراً، ولا بستاناً، ولا قريةً، ولا مزرعةً، ولا شيئاً من أنواع الأملاك، رحمة الله عليه!.
4 ـ صوم رمضان:
فإنَّه كان عليه منه فوائت بسبب أمراضٍ تواترت عليه في رمضانيات متعدِّدة، وكان القاضي الفاضل قد تولّى ثبت تلك الأيام، وشرع ـ رحمه الله ـ في قضاء تلك الفوائت، و ذلك بالقدس الشَّريف في السَّنة التي توفي فيها، وواظب على الصَّوم مقداراً زائداً على شهر، فإنَّه كان عليه فوائت رمضانين، شغلته الأمراض، ومُلازمة الجهاد عن قضائها، وكان الصَّوم لا يوافق مزاجه، فألهمه الله تعالى الصَّوم بقضاء الفوائت، فكان يصوم، وأنا أُثبتُ الأيام التي يصومها؛ لأنَّ القاضي كان غائباً، والطبيب يلومه، وهو لا يسمع، ويقول: (لا أعلم ما سيكون) فكأنه كان مُلهماً ببراءة ذمته ـ رحمة الله عليه! ـ ولم يزل حتى قضى ما كان عليه.(ابن شداد، 2003، ص59)
5 ـ الحج:
فإنه كان لم يزل عازماً عليه، وناوياً له، سيَّما في العام الذي توفي فيه، فإنَّه صمَّم العزم عليه، وأمر بالتأهب، وعُملت الرِّفادة، ولم يبق إلا المسير، فاعتاق عن ذلك بسبب ضيق الوقت، وفراغ اليد عمَّا يليق بأمثاله، فأخرَّة إلى العام المقبل، فقضى الله ما قضى، وهذا شيءٌ اشترك في العلم به الخاصُّ، والعامُّ.
6 ـ سماعه للقرآن الكريم:
وكان رحمه الله ـ يحبُّ سماع القران العظيم، حتى إنَّه كان يستخير إمامه، ويشترط أن يكون عالماً بعلوم القرآن العظيم، متقناً لحفظه، وكان يستقرىء من يحضره في الليل ـ وهو في بُرجه ـ الجُزئين، والثلاثة، والأربعة، وهو يسمع، وكان يستقريء في مجلسه العام من جرت عادته بذلك الاية، والعشرين، والزائد على ذلك، ولقد اجتاز على صغيرٍ بين يدي أبيه وهو يقرأ القرآن، فاستحسن قراءته، فقرَّبه، وجعل له حظاً من خاصِّ طعامه، ووقف عليه وعلى أبيه جُزءاً من مزرعة، وكان ـ رحمه الله تعالى ـ رقيق القلب، غزير الدمعة إذا اسمع القران؛ يخشع قلبُه، وتدمع عينه في معظم أوقاته.(ابن شداد، 2003، 60)
7 ـ سماعه للحديث الشريف:
كان ـ رحمه الله تعالى ـ شديد الرغبة في سماع الحديث، ومتى سمع عن شيخ ذي روايةٍ عاليةٍ، وسماع كثير، فإن كان ممَّن يحضر عنده؛ استحضره، وسمع عليه، فأسمع مَنْ يحضره في ذلك المكان من أولاده، ومماليكه، والمختصِّين به، وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالاً له؛ وإن كان ذلك الشيخ ممَّن لا يطرق أبواب السَّلاطين، ويتجافى عن الحضور في مجالسهم؛ سَعَى إليه، وسمع عليه، وتردَّد إلى الحافظ الأصفهاني بالإسكندرية ـ حرسها الله تعالى ـ وروى عنه أحاديثَ كثيرةً، وكان رحمه الله ـ يحب أن يقرأ الحديث بنفسه، وكان يستحضرُني في خلوته، ويُحضِر شيئاً من كتب الحديث، ويقرأ هو، فإذا مرَّ بحديثٍ فيه عبرةٌ؛ رقَّ قلبه، ودمعت عينه.(ابن شداد، 2003، ص60)
8 ـ تعظيمه لشعائر الدِّين:
وكان ـ رحمه الله تعالى ـ كثير التعظيم لشعائر الدِّين، قائلاً ببعث الأجسام، ونشورها، ومجازاة المحسن بالجنَّة، والمسيء بالنار، ومصدِّقاً بجميع ما وردت به الشرائع، منشرحاً بذلك صدره، مبغضاً للفلاسفة، والمعطِّلة، والدَّهرية، ومن يعاند الشَّريعة. ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر بقتل شاب نشءٍ ٍكان يقال له السَّهْرَوَرْدِي، قيل عنه إنه كان معانداً للشَّرائع، ومُبطلاً، وكان قد قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره، وعرَّف السُّلطان به، فأمر بقتله، وصلبه أياماً، فقتله.
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس، دار المعرفة، بيروت، 1429ه-2008صص 190-192
عبد الله ناصح علوان ،صلاح الدين الأيوبي بطل حطين و محرر القدس من الصليبيين، دار السلام، القاهرة، 1422ه-2001
بهاء الدين بن شدَّاد، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية تحقيق أحمد إيبيش، دار الأوائل سوريا، الطبعة الأولى، 1424ه 2003 م.