كلما تواردت إلى ذهني صورة من صور الماضي البعيد أجد ذاتي مرغمًا على تدوينها بلغة عربية بسيطة لتكون صورة من الممكن أن يطالعها الجيل القادم أو الأجيال على مر التاريخ المستقبلي بعد عشرات السنين أو المئات أو لنقل حتى قيام الساعة.قد تكون تلك الصورة التي أدونها لاتساوي أي شيء بالنسبة للبعض لكنها لي أشعر أنها تشكل ركنًا بهيجًا من أركان البهجة والإنشراح بكل ما تعنيها تلك العبارة من معنى.عند بواكير صباح هذا اليوم هجمت على ذهني صورة بعيدة (صورة السلة الجميلة التي كان والدي رحمه الله قد جلبها لنا ونحن نسكن قرب نهر الفرات في قرية جميلة هادئة تقع بين معسكر حامية المسيب وقضاء المسيب وكان مختارها –عباس العلي- رحمه الله صديق والدي قد سمح لنا للسكن هناك حينما كان والدي يعمل في مشروع الماء الذي يغذي ذلك المعسكر.أبصرتُ النور وأنا أعيش بين بيوت وعوائل تلك المنطقة لدرجة أن سكانها جميعًا كانوا بمنزلة عائلة واحدة ونحن ننتمي اليهم بلا منازع وظلت ذكريات تلك القرية تسبح في ذاكرتي حتى لحظة تدوين هذه الحروف.سمعتُ أحد المثقفين أو الكُتّاب يقول (من يريد أن يعيش سعيدًا عليهِ أن ينسى ذكريات الماضي ويفكر في الحاضر والمستقبل فقط لكنني أجد أن العكس هو الصحيح فكلما شعرتُ بالحزن أسترجع ذكريات الماضي فأجد روحي تموج في محيطات من سعادة ليس لها قرار).كانت السلة المذكورة أعلاه مهمة جداً بالنسبة لبيتنا فقد كانت والدتي تعلقها على جدار الغرفة –الطينية-آنذاك وتحفظ فيها أشياء متنوعة مهمة جداً بالنسبة لها ولكل أفراد البيت.اليوم لا أعرف كيف تواردت صورة تلك السلة إلى ذهني وأنا أتناول فطور الصباح.بدون تردد نهضت على عجلٍ من أمري وخرجت من البيت صوب السوق الوحيد الذي يبيع الأشياء التراثية قرب شارع حيفا,وحينما أخبرتُ شريكة حياتي عن مهمتي قبل الخروج من البيت –كانت نظراتها تشير إلى أنني ربما بطران أو مجنون بعض الشيء-هي لاتعرف حكاية تلك السلة وكيف أن لها وقعٌ جميل في روحي ومنعطفات خواطري.
بعد لحظات وجدتُ نفسي في سيارة الميني باص المتجه نحو منطقة –العلاوي-وأنا أشعر كأنني أطير نحو ذكريات رسمت لها تاريخاً جميلاً في كل بقعة من بقاع هذا الوطن الجريح.لا أعرف أين أرسل نظراتي المرهقة فكل الزوايا التي تقع عليها نظراتي تذكرني بتارخ هذا الوطن قبل سنوات تزيد على الخمسين عاما وربما أكثر,أشعر أحيانا بنوستالجية –حنين إلى الماضي- تذكرني بشبابي الذي ضاع بين حروبٍ ليس لها نهاية ولم نشعر بالأستقرار يوما ما فكلما جاءت حكومة لعنت التي سبقتها ونحن البؤساء من أبناء هذه الأرض الطيبة ندفع ثمن كل الخصومات التي تقع بين المتعاقبين على حكم هذا الوطن المسكين.ربما يقول قائل –أنت ذهبت الى فروع جانبية وتركت الموضوع الرئيسي الذي تريد الحديث عنه,أنا لايهمني من يقول هذا أو ذاك فأنا أكتب لذاتي لايهمني مايريده القوم,كما حدث يوماً ما للزميل علي بدري حينما كان يطالع مسودة كتابي-عندما يتكلم الجندي المجهول حينما كنا نعمل سوية في قناة يابانية مهمة عام 2006 حينما غضب والقى المسودة لأنه كان يتابع حدث معين وحينما وجدني أغوص في أحداث جانبية صاح –أوووف- ورمى المسودة بعيداً ,نظرتُ اليه ساخراً وقلت “لن تعرف الهدف من حركتي تلك ورب الكعبة,ومنذ تلك اللحظة حكمت عليه بأشياء غير مرغوبة.نعود إلى الحكاية” كنتُ التهم كل صورة من صور الحياة التي كانت تمر من أمامي أو أمر أنا من أمامها وتتبادر إلى ذهني أفكار وصور ليس لها نهاية..فهذه الرافعات التي تشق الأرض لعمل مشروع ما في منطقة من مناطق الدورة لماذا لم تفكر بها حكومة صدام وبلدياته قبل هذا الزمن؟ هل من المكن أن المهندسين في ذلك الزمن لم تكن لهم رؤيا وأفكار لدرجة أنهم نسوها في ذلك الوقت وجاء هذه الحكومات التي تسرق كل شيء لتصنع مشروعًا مهما على شاكلة هذا المشروع؟ .حينما توقفت سيارة ألميني حافلة قرب دائرة البطاقة الموحدة أردت أن اصرخ بأعلى صوتي(أين أنتم من كل تلك الأشياء الحديثة التي تحدث في كل العالم؟ صار العالم يصنع معاملات وأشياء في لمح البصر وأنتم لاتزالون تطلبون من المواطن كل الأوراق الثبوتية التي تثبت أنه ينتمي إلى هذا الوطن.من الممكن أن تكون أية وثيقة يمتلكها المواطن العراقي كافية لأثبات أنه مواطن عراقي من أم وأب عراقيان منذ فجر التاريخ,من يمتلك إجازة سوق يكون قد سلم للدائرة المختصة كل الأوراق الثبوتية المطلوبة ومن لديه جوازسفر يكون قد قدم للدائرة المختصة كل الاوراق الثبوتية المطلوبة ومن لدية بطاقة الاحوال المدنية يكون هو الآخر فعل ذات الشيء ومن لديه شهادة الجنسية العراقية يكون أيضاً قد منح الدائرة المختصة كل ما يثبت انه عراقي منذ الولادة فلماذا كل هذا الروتين القائل في كل معاملة يريد أن ينجزها ذلك المواطن العراقي المسكين. يوما ما قال لي صحفي أجنبي حينما كنت أرافقه بصفة مترجم ودليل من وزارة الإعلام العراقية(أنتم دولة ورقية متعبة حقًا..)لم أعلق على كلامه لأنني أفهم ماكان يريد أن يقوله لي.
في اللحظة التي دخلت فيها سوق بيع أدوات التراث العراقي كادت الدموع تتفجر من مقلتي فقد تذكرت والدي حينما جاء من المسيب ودخل ذلك السوق واشترى لنا تلك السلة الجميلة التي رافقتنا سنوات طويلة.تفحصت كل الموجودات في السوق التراثي وقررت مع نفسي أن اشتري شيء واحد كلما جئت إلى هذا المكان.دون مناقشة البائع اليافع سلمته ثمن السلة وخرجت من السوق أحملها في يدي اليمنى وكأنني أحمل طفلاً عزيزًا وذكريات والدي الرائع تتزاحم في ذاكرتي وأنا أتفحص كل محل من مَحَالّ العلاوي واستذكر طفولتي وشبابي حينما كنتٌ أمر من هنا يوما ما.