أصدر الكاتب المصري الكبير سلامه موسى ( 1887 – 1958) كتابا مشهورا بعنوان – ( هؤلاء علموني )تناول فيه مجموعة كبيرة من ادباء ومفكري العالم الغربيوحاول تعريف القارئ العربي بالسمات الفكرية الجوهرية لفلسفتهم وابداعهم , وكان من بينهم دستويفسكي وتولستوي وغوركي ( حسب التسلسل الذي جاء في كتابه المذكور ), ونود في هذه المقالة ان نتوقف قليلا عند تلك الافكار التي عرضها سلامه موسى بشأن واحد فقط من هؤلاء الادباء الروس الكبار وهو فيودور ميخايلوفيتش دستويفسكي (21 18- 1881),وعلاقته بابداعه وفلسفته, اذ لا تسمح طبيعة هذه المقالة بالتوقف عند تولستوي وغوركي ايضا وعرض آراء سلامه موسى حولهما, وهي مسألة جديرة بالتوقف عندها والكتابة عنها فعلا , ونتمنى ان تسنح الفرصة والظروف لنا مستقبلا للقيام بذلك.
جاء اسم دستويفسكي ( ويكتبه دستوفسكي ) ثامنا ضمن الاسماء العشرين من الشخصيات الفكرية التي تحدث عنهم سلامه موسى في كتابه هذا ويضع تحت اسمه عنوانا ثانويا وهو – ذكاء العاطفة, ويشير المؤلف في بداية الفصل الى اعجابه الشديد بالادب الروسي مقارنة بالاداب الاوربية الاخرى , ويسرد اسماء هؤلاء الادباء الروس المعجب بهم وهم كما جاء في الكتاب – (تولستوي ودستوفسكي وجوركي وجوجول وتيشهوف وترجنيف), ومن الواضح انه لم يأخذ بعين الاعتبار التسلسل التاريخي لهؤلاء الادباء في قائمته المذكورة هذه , ولهذا جاء اسم غوركي قبل اسم غوغول وتشيخوف ( الذي يكتبه تيشهوف !!) وتورغينيف. يبدأ سلامه موسى الحديث عن دستويفسكي بالاشارة الى روايته القصيرة – ( المساكين) والتي يسميها ( قصته الاولى) , ثم ينتقل رأسا الى روايته الاخيرة ( الاخوة كارامازوف ) ويطلق عليها وبشكل صارم ومحدد تسمية- ( الاولى بين قصص العالم جميعها) , ثم يرجع و يشير الى رواية دستويفسكي التي سبقت تلك الرواية وهي – الجريمة والعقاب ويسميها ايضا – ( قصة الجريمة والعقاب ), ويجري كل ذلك بشكل متسارع دون ان يستخدم المؤلف او حتى ان يأخذ بنظر الاعتبارالمصطلحات الادبية المستقرة آنذاك في عالم النقد الادبي العربيمن رواية قصيرة او قصة طويلة او رواية…الخ, ثم يصل الى الاستنتاج الآتي حول كل نتاج دستويفسكيالابداعي – ( وتتسم قصصه بحنان ورقة يشيعان في نفوسنا احساس الدين, وهي جميعا دعوة الى الخير وحب الاطفال وحماسة الامومة ولذة التضحية وارتفاع عن الدنايا المادية ونحو ذلك وقد كانت حياته هو نفسه مليئة بهذه العواطف ), وهذا الاستنتاج كما هو واضح غير دقيق بشكل عام ولا يتناغم ولا ينسجم اصلا مع عمق فلسفة دستويفسكي وابداعه, ولا يعبر عن جوهر كتاباته واهميتها وقيمتها , ولا نريد تحليل التفاصيل او التوقف عند بعض التعابيرالتي جاءت في ثنايا تلك الجملة مثل تعبير- ( حب الاطفال ) او ( حماسة الامومة) او الكلام عن ( قصصه التي تتسم بحنان ورقة يشيعان في نفوسنا احساس الدين ),ونظن ان القارئ العربي المعاصر لا يمكن ان يتقبلها بشكل عام, ولايمكن ان يعتبرها تحديدا علميا دقيقا لطبيعة ابداع دستويفسكي وخصائصه الفنية. ينتقل المؤلف بعد ذلك الى الكلام عن قصة اعتقال دستويفسكي المعروفة اثناء اجتماع جماعة بيتراشيفسكي والحكم عليه بالاعدام مع رفاقه لانتمائهم الى هذا التنظيم ,والذين كانوا يعتبرون من مؤيدي الافكار الفرنسية الاشتراكية فيقول عن ذلك ما يأتي – ( ..ان الاجتماع كان احتفالا بميلاد الكاتب الفرنسي فورييه وكان مشهورا ببرنامج يقترحه لتغيير المجتمع وهو حين نقرأه هذه الايام نجد فيه سخفا عظيما, ذلك انه ينص على تأليف جماعات لا تزيد احداها عن 1600 شخص يعيشون معا متعاونين مستقلين عن الجماعات الاخرى ) , ومن المعروف ان تنظيم بيتراشيفسكي كان يرتبط بافكار ما يطلقون عليه في الدراسات الفكرية بالاشتراكية الطوباوية او الخيالية و (مدينتها الفاضلة ) , وهي افكار مثالية بعيدة عن الواقع طبعا الى حد- ما, ولكن جذورها– مع ذلك – تمتدعبر تاريخ انساني عميق في مسيرة حضارة البشر واحلام الانسان بانتصار العدالة والحرية, ويمكن بالطبع الاتفاق او عدم الاتفاق مع تلك الافكار كليا او جزئيا, ولكن لا يمكن ان نسميها ( سخفا عظيما ) كما جاءت عند المؤلف بلا شك , واظن ان هذا التقييم لا يتناسب مع اي نقاش علمي وموضوعي حول تاريخ الافكار الفلسفية بشكل عام .ثم ينتقل سلامه موسى الى موضوع آخر يتعلق بتاريخ النقد الادبي الروسي , ويقدم لناتعريفا (غريبا ! ) للناقد الروسي الكبير بيلينسكي ورسالته الشهيرة الى غوغول وكما يأتي – ( …قرأ احد الحاضرين خطابا من أديب يدعى بيلينسكي الى القصصي جوجول يوبخه فيه, لانه عاد الى الايمان بعد الكفر), وعلى الرغم من ان سلامه موسى كان يستشهد في هذا المقطع بالتهم التي تم توجيهها الى تلك المجموعة, الا ان هذا الاستشهاد كان يتطلب التوضيح الدقيق لهذا الموضوع والموقف الواضح والصريح منه,علما ان بيلينسكي في رسالته تلك لم ينتقد ( ولا اريد استخدام فعل يوبخ طبعا ) غوغول لا من قريب ولا من بعيد نتيجة ل ( عودته الى الايمان بعد الكفر), اذ لم يكن غوغول (كافرا!) ابدا, وانما انتقده لتراجعه عن روحية وسمات نتاجاته الادبية السابقة وطبيعتها واصداره كتابا بعنوان – ( مقاطع مختارة من مراسلات مع الاصدقاء ) لا ينسجم مع مواقفه الفكرية التي كان ينطلق منها في الماضي, وان رسالة بيلينسكي الى غوغول هي في الواقع وثيقة تبين الخلافات الفكرية الحادة بين ادباء روسيا ومثقفيها في تلك الفترة التاريخية المتشابكة من مسيرتها بين النزعة الغربية والنزعة السلافية, والتي استمرت طوال القرن التاسع عشر تقريبا في الاوساط الادبية الروسية, ولا زالت هذه الرسالة لحد الان تثير النقاشات الحادة في اوساط الباحثين الروس والاجانب المهتمين بالادب الروسي خاصة والفكر الروسي بشكل عام وتاريخه ومسيرته, فمنهم من يؤيدها بحماس ومنهم من يقف ضدها ويعتبرها غير صحيحة وغير موضوعية, وترتبط موضوعة دستويفسكي بهذه القضية بالذات ارتباطا وثيقا, ويشير سلامه موسى نفسه الى ذلك في ثنايا مقالته تلك حيث يقول ان دستويفسكي كان – ( يكره اوروبا وقد دعا الى مقاطعة الثقافة الاوربية في الوقت الذي كان يدعو فيه تورجنيف الى اعتناقها.) , وهذه اشارة دقيقة وصحيحة جدا– رغم ما فيها من تبسيط – الى الصراع الذي كان سائدا في اوساط الادباء والمفكرين الروس آنذاك.وباختصار فان مقالة سلامة موسى عن دستويفسكي تتضمن – من وجهة نظرنا – بعض الهفوات الصغيرة هنا وهناك , ولكنها
-وبغض النظر عن كل النقاط التي أشرنا اليها أعلاه- تحدد بشكل صائب وصحيح جوهر فلسفة الكاتب الروسي الكبير, والتي يوجزها سلامه موسى بموقف دستويفسكي من المسيحية , والتي استطاع – حسب تعبير سلامه موسى – ان يجعلها ( دينا وأدبا معا ) وهو تعبير موفق وناجح جدا,مؤكدا في الوقت نفسه الى ان دستويفسكي قد فطن ان – ( العلم بلا دين هو دمار بشري ) , ويربط سلامه موسى هذه الفكرة بما حدث في هيروشيما في نهاية الحرب العالمية الثانية, وهو ربط شجاع وصائب وجرئ فعلا. واخيرا يمكن القول بلا شك ان مقالة سلامه موسى حول دستويفسكي هي محاولة ( اكرر – محاولة ) عربية مبكرة جديرة بالاعتبار لبلورة رأي عربي سليم وصحيح بشكل عام حول اهمية هذا الكاتب الروسي الكبير.