لقد أشرنا في مقالتنا التي نشرناها سابقا بعنوان – ( سلامه موسى ودستويفسكي)الى ان موقف وآراء الكاتب المصري الكبير سلامه موسى ( 1887- 1958) حول سمات ومكانة الادب الروسي واعلامه بشكل عام تستحق التوقف عندها وتأملها ومناقشتها بلا شك , ووعدنا القارئ بالعودة اليها, وذلك لانها تجسٌد افكار شريحة رائدة من المثقفين العرب ظهرت وتبلورت في النصف الاول من القرن العشرين , عندما بدأت عملية تحرر الفكر العربي من نير وتسلط العقلية العثمانية ومفاهيمها المعروفةوالتي كانت سائدة آنذاك , وبالتالي فانها تعد واحدة من ابرز سمات وخصائص النهضة العربية الحديثة في مرحلتها المبكرة , والتي حاولت – وبشجاعة – ان تتعامل مع افكار ومفاهيم الادب العالمي واعلامه وتتفهمه بشكل عام , بما فيه الادب الروسي طبعا , ونحاول الآن في مقالتنا هذه ان نتناول علاقة سلامه موسى بالكاتب الروسي المعروف ليف تولستوي ( 1828 – 1910 ), عبر قراءة تحليلية لمقالته بعنوان – ( تولستوي – فيلسوف الشعب ) التي جاءت في كتابه الشهير – ( هؤلاء علموني ).
يتحدث سلامه موسى في مقالته هذه عن فلسفة تولستوي كما هو واضح من العنوان , ويتوقف عند مواضيع واسعة جدا و مختلفة ومتنوعة مثل الحرب والثورة و معنى الدين ودور الكنيسة وموقفها تجاه القضايا الاجتماعية وتحرير العبيد وتاريخ الصراعات الفكرية في روسيا ودور الادب في المجتمع وتأثيره على مسيرة الاحداث..الخ , ويمر الكاتب على كل هذه المواضيع الكبيرة والمتشعبة ويعرضها بايجاز شديد جدا دون ان يحاول التوغل في اعماقها وتفاصيلها, ويؤدي هذا الموقف– بعض الاحيان –الى تبسيط لتلك المواضيع اولا, و الى خلط مربك جدا وتشابك فيما بينها ثانيا , الا ان القارئ – مع ذلك – يخرج بحصيلة واضحة المعالم بشكل او بآخر حول موقف تولستوي من معظم هذه المواضيع الفكرية البالغة الاهمية ومفاهيمه الفلسفيه تجاهها, وهو هدف كبير جدا استطاع سلامه موسى ان يحققه فعلا وبشكل صائب–عموما- في مقالته تلك, وسنحاول فيما يأتي ان نعرض بعض هذه الآراء لمقالته المذكورة.
يتوقف الباحث اولا عند موضوعة الحرب ويشير الى مشاركة تولستوي في الحرب الروسية – العثمانية في شبه جزيرة القرم عام 1854 المشهورة ويحدد موقف الكاتب من وحشية الحرب وطبيعتها وكيف انها تعتبر ( بؤرة لمشكلات عديدة ) , ثم ينتقل الى موضوعة ( تحرير العبيد ) كما يسميها سلامه موسى , ويقصد بالطبع القانون المهم جدا في تاريخ روسيا والذي صدر عام 1861 من قبل القيصر الكساندر الثاني ( يسمونه القيصر المحرر في الكثير من المصادر الروسية التاريخية ) والذي ألغى بموجبه حق القنانة في روسيا, ويقول ان تولستوي ( حرر عبيده قبل ان يسن قانون 1861 ), ولكن سلامه موسى لا يوضح كيف تم ذلك ولا اهمية هذا القانون في مسيرة التاريخ الروسي ولا موقف تولستوي منه , وبالتالي فان القارئ لا يستوعب هذه النقطة المهمة والكبيرة في فلسفة تولستوي بكل ابعادها وتبقى مبهمة تقريبا بالنسبة لهذا القارئ , وينتقل سلامه موسى الى موضوعة اخرى معقدة وكبيرة ايضا وهي – العلاقة المتبادلة بين الفرد والمجتمع , ويشير الى ان تولستوي قد فشل في تفسير هذه العلاقة لانه كان يرى ان اصلاح الفرد يؤدي الى اصلاح المجتمع , بينما يعتقد سلامه موسى العكس تماما , ويقول في هذا الشأن , ان ( تولستوي لم يفقه ان الفرد لن يتغير الا اذا غيٌره المجتمع او هيٌأ له اسباب التغيير ), ويقتضي هذا الاستنتاج الشخصي البحت من قبل سلامه موسى جهدا فكريا اوسع واعمق بلا شك من اجل اثبات هذا الرأي حول ( فشل تولستوي في تفسير هذه العلاقة ) . يتوقف الباحث بعدئذ عند موضوعة الصراع الفكري الكبير الذي شهدته روسيا بين كل من أنصار النزعة الغربية وأنصار النزعة السلافية في اواسط القرن التاسع عشر, ويطلق عليها تسمية ( الصراع بين المستغربين والمستشرقين ) , وهي تسمية ليست صائبة تماما وغير دقيقة من وجهة نظرنا, واذا كان اطلاق تسمية ( المستغربين ) مقبولة الى حد ما باعتبارها تشير– بشكل أو بآخر – الى انصار النزعة الغربية , فان تسمية ( المستشرقين ) غير مقبولة هنا ولا تعبر عن الواقع الروسي الذي كان سائدا آنذاك , بل هي تكاد تذكر القارئ العربي بمفهوم حركة الاستشراق المعروفة والمشهورة في عموم البلدان الاوربية ليس الا , على الرغم من ان سلامه موسى يحاول بعدئذ ان يوضح للقارئ خصائص الاتجاهين والمبادئ التي يدعو اليها كل طرف في هذا الصراع قائلا , ان فريق يقول بالتزام روسيا لمبادئها الشرقية والفريق الآخر يقول بأخذها بالاساليب الغربية , ويكتب فيما بعد الاستنتاج الآتي – ( ان هذا التردد كسب منه الرجعيون اي القيصريون والكنسيون , لأن القيصرية والكنيسة مؤسستين شرقيتين يجب المحافظة عليهما, ولذلك كان القول بتحرير العبيد من الرق الزراعي وتعليم المرأة في الجامعات ..بل البرلمان نفسه كان من بدع المستغربين الذين يعدون خونة للمبادئ الشرقية الروسية , وكان من الجانب الآخر دعاة الحضارة الغربية العصرية الذين أخذوا بالمذهب الماركسي في الاشتراكية والذين كانوا يطالبون بالغاء القيصرية واحتضان الثقافة العلمية الاوربية ), وهذا الاستنتاج – في الواقع – ما هو الا تفسيرذاتي بحت و مرتبك جدا وغير دقيق من وجهة نظرنا, اذ انه لا يأخذ بنظر الاعتبار الوقائع(و اؤكد على كلمة الوقائع ) التي تحققت في المجتمع الروسي آنذاك , اضافة الى ان سلامه موسى هناينتقل للحديث عن سمات عصر آخر في تاريخ روسيا , عندما برزت الاحزاب الاشتراكية وانتهت بانتصار ثورة اكتوبر عام 1917على مشارف نهاية الحرب العالمية الاولى , وكل ذلك بالطبعيكون خارج اطار الصراع بين انصار النزعتين الغربية والسلافية في اواسط القرن التاسع عشر والتي كان يدور الحديث عنها في اعلاه , وهذا يعني بالتالي , ان هذا الاستنتاج يبتعد كليا عن مفاهيم تولستوي وفلسفته وخصائص عصره, اضافة الى ان هذا التقسيم الذي طرحه سلامه موسى للمجتمع الروسي آنذاك , مشيرا الى انه يتكون من– ( رجعيين ) وهم (القيصريون والكنسيون) , و ( دعاة الحضارة الغربية العصرية الذين أخذوا بالمذهب الماركسي ) هو تقسيم بعيد جدا عن النظرة الموضوعية وتبسيط للموضوع يتعارض مع الواقع الروسي الذي كان سائدا في تلك الفترة , ولا مجال هنا للتوقف عند هذا الرأي ومناقشته تفصيلا بالطبع لانه خارج الموضوع اصلا , ولكن قدر تعلق الامر بتولستوي وفلسفته , اود ان اشير فقط الى ان تولستوي لم يكن ينظر الى القيصرواتباعه او الى الكنيسة وانصارها على انهم ( رجعيون ) , بل ان هذه المفردة غريبة جدا بالنسبة الى طبيعة اسلوب تولستوي اصلا , كما ان تولستوي كان بعيدا جدا عن ( دعاة الحضارة الغربية الذين أخذوا بالمذهب الماركسي ) كما كتب سلامه موسى . يتناول الباحث بعد ذلك عدة مواضيع اخرى في مقالته تلك مثل موقف تولستوي من الثورة , ويشير بشكل صائب الى ان تولستوي لم يكن يعتبر الثورة مخرجا من ازمة المجتمع الا ان واقعيته قد أدٌت الى ما يطلق عليه سلامه موسى ب ( ايحاء للثورة ) , وهي وجهة نظر موجودة فعلا عند بعض الاوساط الفكرية الروسية , وتذكرنا بطروحات لينين الشهيرة التي جاءت في مقالته المعروفة عن تولستوي بعنوان – ( تولستوي – مرآة الثورة الروسية ) , ولكن سلامه موسى لم يستشهد بمقالة لينين هذه ولم يذكرها في مقالته تلك.يتوقف الباحث عند مواضيع كبيرة اخرى لا مجال لمناقشتها في اطار هذه السطور مثل موقف تولستوي من الكنيسة الروسية الارثذوكسية ومن المسيحية بشكل عام , وهو موضوع في غاية الاهمية ولا زال حيويا لحد الان , او علاقة تولستوي بغاندي وجان جاك روسو , وهو موضوع كبيرجدا بالطبع يدخل ضمن مسألة التأثير والتأثر بين أعلام الفكر , وختاما نود الاشارة الى ان سلامه موسى تناول الحديث عن ابطال روايات تولستوي , ومن الممكن تبرير ذلك باعتبار ان هؤلاء الابطال كانوا يعبرون عن افكار تولستوي الفلسفية التي تناولتها المقالة , لكننا لم نستطع تفسير السبب الذي جعل سلامه موسى يقارن هؤلاء الابطال بابطال روايات دستويفسكي , علما انه استرسل واستطرد كثيرا عند الكلام عن هذه المقارنة , وعلى الرغم من صحة تلك الملاحظات بشكل عام الا اننا نرى بانها لم تكن منسجمة ومتناغمة مع طبيعة تلك المقالة , وهي تصلح ان تتحول الى مقالة منفصلة في الادب المقارن بلا أدنى شك .
مقالة سلامه موسى عن فلسفة تولستوي هي– حسب رأينا المتواضع – رؤوس نقاط فكريةعديدة وكبيرة تجمعت وتراكمت لدى الباحث المصري الكبير و تتطلب عدة مقالات تفصيلية ومعمقة و منفصلة عن بعضها , ورغم كل الملاحظات التي جاءت في هذا العرض الوجيز , الا ان ذلك لا يقلل ابدا من اهميتها التاريخية في مسيرة الفكر العربي الحديث , وهي تمتلك بلا ادنى شك مكانتها العلمية الرائدة في موضوعة الادب والفكر الروسي و دراسته واستيعابه في عالمنا العربي الحديث.