لقد أثبتت تجارب التاريخ البشري الطويل أن اجتثاث الأفكار والعقائد أمر مستحيل إذا اعتمد الساعي إليه أساليب القمع والقهر والتجويع أوالنفي أو الاغتيال، لا مقارعة الفكر بالفكر والعقيدة بالعقيدة وبالتي هي أحسن.
وعليه فإن أي محاولة لاجتثاث فكر وعقيدة تصبح جنونا ومضيعة للوقت والجهد والمال، واستغفالا للشعب، وحرمانا للوطن من خبرات حشد كبير من أبنائه، ولا تأتي بنتيجة بكل حال من الأحوال.
نعم إن من الممكن أن تستطيع حكومة أو جماعة اجتثاثّ أحزاب أو حركات سياسية أو فكرية أو دينية باعتقال أو قتل أو نفي قادتها وأعضائها، ولكن لا يستطيع أحد أن يغتال فكرا وعقيدة.
ألم يحاول المسلمون الأوائل والأواخر أن يجتثوا المسيحية واليهودية، فماذا كانت النتيجة؟وألم يحاول خلفاء بني أمية اجتثاث المعتزلة والمرجئة والتوابين والمختار بن أبي عبيد الثقفي وزيد بن علي بن الحسين والخوارج على اختلاف فرقهم، فضلا عن حركات أخرى مثل حركة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وأخيرا حركة المطرف بن المغيرة بن شعبة في المدائن، ثم فشلوا في جميعها فشلا كاملا، بدليل سقوط الدولة الأموية وقيام دولة بني العباس؟
ثم ألم يبطش العباسيون بمعارضيهم العلويين والخراسانيين والزنج والقرامطة وغيرهم بقسوة لم يتحدث التاريخ عن أبشع منها، ثم عجزوا، وأضعفت الحركات السرية المعارضة دولتهم لتسقط في النهاية بسهولة وبدون مقاومة تحت أقدام المغول؟
وفي عصرنا الحديث كم بذلت حكومات أمريكا وأوربا وحلفاؤها حكامُ الدول العربية من أموال وجهود لاجتثاث الفكر الشيوعي؟ هل أفلحت؟، نعم بطشت بالشيوعيين، قادة وأفرادا، وأسقطت دولة الحزب الشيوعي (الاتحاد السوفيتي) ولكنها لم تُسقط الفكر ولا العقيدة.
وفي العراق، ألم تجند حكومات العهد الملكي كل ما في طاقتها من قوة ومال لاجتثاث الشيوعية ثم أسقطها الشيوعيون في النهاية بالتعاون مع الضباط الأحرار؟.
وفي أيام عبد الكريم قاسم كم حاول الشيوعيون اجتثاث الفكر البعثي والقومي والديني بالعنف السلطوي والشعبي، (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة)، و(الما يصفق عفلقي قواويد بعثية)؟ ثم أسقطهم البعثيون بعد ذلك؟.
وأخطأ صدام حسين كثيرا جدا حين لجأ لأشد أنواع العنف ضد حزب الدعوة والحزب الشيوعي والحركة القومية الكردية، فمنح حزب الدعوة فرصة الظهور بمظهر المدافع عن حقوق الطائفة الشيعية العراقية، كلها، في ممارسة طقوسها، ومكَّنه من إقناع الآلاف بل الملايين من الشيعة العرب العراقيين بأن عمالتَه الثابتة والمشهودة لإيران ليست بذات أهمية ما دام هو حامي حمى الطائفة من عدوان السلطة وظلمها، ثم أضاف صدام،بعنفه المبالغ فيه وبالتجريم بالشبهة، قوة إلى قوة الحزب الشيوعي ومزيدا من الانتشار، وأعطى الحركة القومية الكردية فرصة الانفصال الاستقلال والاقتراب من الانفصال.
بعبارة أخرى، لقد مكن صدام معارضيه، سواء كانوا معارضين وطنيين شرفاء أو عملاء وخونة ومختلسين، من الانتصار عليه من حيث أراد أن يمحوهم من الوجود.
ومنذ العام 2003 وحتى اليوم يرتكب الحكام المتديّنون وأحزابُهم ومليشياتهموحسينياتهم وفضائياتهم نفس الخطأ الذي ارتكبه صدام حسين والذي جعله يلف حبل المشنقة حول رقبته، وحوله أعداؤه الذين حاول اجتثاثهم يتصايحون ويتقافزون من الفرح والشماتة.
ويقودنا هذا الوضع المزري إلى الحديث عن مسألة اعتراض نواب الشعب (المشكوك في شرعية انتخابهم) على بعض وزراء حكومة عادل عبد المهدي أو المرشحين لشغل بعض وزاراته، بسبب كونهم بعثيين سابقين، فقط لا غير، دون البحث والتدقيق والتقليب والتدوير لمعرفة إن كان أحدُهم قاتلا، أو مختلسا، أو عميلا لمخابرات شقيقة أو صديقة.
ولمن لا يتذكر من قرائنا ننعش ذاكرته بأن الحاكم الأمريكي بول بريمر لم يكن هو عراب ذلك القانون المعيب، بل الذين صاغوه وصمموه وأقنعوا بريمر باعتماده هم أصحاب العمائم الدينية والعمائم القبلية الذين أوكلوا أمر تطبيقه، حصريا، لأحمد الجلبي ونوري المالكي وموفق الربيعي ومثال الآلوسي.
فإن كان هذا القانون المعيب هو أسوأ ما جاء به العهد الديمقراطي الجديد فإن الذين احتكروه وجعلوه مصدر ارتزاق وابتزاز هم الأسوأ من الأسوأ بما لا يقاس.
والمحير كثيرا أن حكومات الأحزاب الدينية ومليشياتها تلاحق البعثيين في العراق بكل ضراوة، لكنها تصاحب أشقاءهم البعثيين السوريين بكل ضراوة أيضا، بحجة أن الهدف من الاجتثاث هو الحرص على “حظر كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي، أو يُحرض أو يمهد أو يمجد أو يبرر ذلك، وخاصة حزب البعث ورموزه“.
وأحزاب الاجتثاث الحاكمة في العراق ومليشياتُها أعرفُ من غيرها بأن الإرهاب الحقيقي، من أول أيام سقوط نظام صدام وإلى اليوم، ليس بعثيا كلـُه، بل أكثرُه إرهابٌ إسلامي سلفي خارجي قادمٌ من وراء الحدود.
وكان الأولى والأحرى بالسلطة، إن كانت مخلصة فعلا لطوائفها وأحزابها ورؤسائها، وعاملة على إنقاذ دولتها من العنصرية والإرهاب والتكفير والتطهير العرقي والطائفي، أن تبدأ بأهل البيت الشيعي، والبيت السني، والبيت الكردي، أنفسهم قبل غيرهم، وأن تعاقب كل من اختلس او قتل أو اغتصب أو زوَّر أو ظلم، أيا كان وأيا كان حزبه وطائفته وقوميته ودينه، دون نفاق ولا انتقاء ولا رياء.
مثال. لقد أصدر القضاء العراقي (العادل) و(المستقل) مؤخرا حكما بشمول وزير التجارة الأسبق فلاح السوداني بقانون العفو العام وإطلاق سراحه، وهو مدان قضائيا بالسرقة والاختلاس والاهمال، بحجة أن وزارة التجارة تنازلت عن حقها، فهل هناك عذر أكبر من ذنبٍ كهذا، يا عالم يا هوو؟؟
ترى من أحقُّ بالاجتثاث، وزيرُ تجارة حزب الدعوة الحرامي أم وزير التجارة البعثي النزيه الشريف العفيف مهدي صالح؟
نعم تمكنتم من تمزيق البعث، كحزب، بالاعتقال والاغتيال والتهجير والتجويع، ولكنكم لم تسطيعوا ولن تستطيعوا أن تهزموه فكرا وعقيدة، سواءٌ اختلفنا معه أو اتفقنا، وسيبقى بخير، هو وأنصاره إلى زمن قادم طويل، ما دمتم لا تعدلون، ولا تعقلون.