23 ديسمبر، 2024 4:59 ص

كان متمردا” على المقولات الجاهزة وانقلابيا مثل فريدريك نيتشه وحكيما مثل سقراط ومزاجيا مثل سارتر وعبقريا مثل العقاد. كان لا يمكن ضبط إيقاع خطواته تحت أي وزن او سقف، فما يقوله شفاهاً بين طلبته واترابه في الثقافة أكثر مما يكتبه في مقالاته ومنشوراته التي لا حصر لها. استنكر الظلم الاجتماعي وانحطاط الثقافة والاحتقار الذي يلقاه المثقفون على يد السلطة، كان يحتج في مقالاته بشده على الخراب الذي ينهش الناس في عقولهم بسبب الدعاة والمتملقين للسلطة. كان يرى في السخرية والتهكم أسلوبا فريدا في النقد الفلسفي وفي تبرئة الحقيقة من وهج الشر الذي احاطه الانسان بها. دافع عن الانسان كونه أصل الخلق الإلهي وجوهر عطاء الله للكون. في مقالاته حذرا كمن يمشى على أطراف الابر، كان يعرف ان اي سقطه بسيطة قد تصمته الى الابد في زمن لا يعترف بان المثقف هو برعم الحضارة وفيض عطائها.
كان يؤرقه التناقض الصارخ في منظومات المؤسسات الاجتماعية والإدارية في المجتمع العراقي والعربي وهو يرى انها  تولِّد ضياعا و حروبا بين الهويات المتناقضة و ومراكز القرار السياسي، فيقول مثلا” انه عندما تتبنى وزارة التربية في دوله اسلاميه ما وتتبنى وزارة الثقافة نمط اخر يعزز فلسفه وضعيه او برغماتية ما حسب طبيعة العمل والتصدير المنظم للمعرفة او حسب طبيعة ثقافة المسؤول فان ذلك يؤدي الى  صراع مرير  في هيبة المجتمع , ويخلق اجيالا متصارعة متناقضة متعددة المرجعيات تفتقد الى  التوافق والاتساق مع نفسها ومع قيمها وحتى مع منظومتها الدينية.
 انه مدني صالح الذي أنزل الفلسفة وهي الثقافة التي لا حض لها مع العرب انزلها الى الشارع وجعل مقولاتها على السنة البسطاء وانصاف المثقفين وحتى متنطعي الثقافة يتباهون بمقولاته العميقة الغور فيما بينهم. شغلت فكرة العدل الاجتماعي فلسفته وصبغتها بصوفيه مغرقه بالترفع عن المغريات رغم انه كان يساريا. كان شجاعا في طروحاته وخاصة بحثه عن الوجود في الفلسفة الإسلامية. استغرق عميقا في استظهار حوار الوجود مع الكندي، وشاكس المعتزلة كثيرا في بنائهم الفلسفي ودعاماتهم المنطقية وأرقه الأشاعرة في ظاهرياتهم، وتوقف طويلا اجلالا للغزالي في وجوده المُحدَث والقديم في عين وجوده، وألف بينه وبين وإخوان الصفا في أروع حوار فلسفي على الاطلاق. لم يكتفي من ابن سينا في نظرية الفيض كمصدر للمعرفة اليقينية الوحيد واعتبرها مشائية شرقيه وغير أرسطيه برهانيه، ولم ينصف الفارابي في قدم العالم واعتبر مقالاته تكرارا” لمقولات طاليس ومنهجه العلمي المشبع بالميثولوجيا، ثم جلس مع ابن رشد في اغلب صباحات حياته واقتبس من عقلانيته الكثير.
 حاول تأسيس رؤية فلسفيه خاصه به في التعاطي مع التاريخ والتراث ولكنه لم يستمر كفيلسوف، بل توغل عميقا” في الكتابة في الادب والنقد كما في (مقامات مدني صالح)، وترك تخصصه الحقيقي في الفلسفة والذي ندم على تركه في 1995 ليعود مجددا كالنهر ب (بعد الطوفان)، و (بعد خراب الفلسفة)، وغيرها. الفلسفة الإسلامية لديه نتاج ثلاثة عوامل هي القران والفلسفة اليونانية وذاتية الفيلسوف، وأعتبر ان أهمها على الاطلاق هو عقل المفكر الفيلسوف لان روحه ذائبة في المعاني التي ينتجها، وهذا يعتبر تأسيس عراقي حديث للفلسفة (الأكاديمية) التي كانت في كثير من مصادرها القديمة تعود الى الحوزات العلمية الدينية ولم يكن في زمنه أي تأسيس فلسفي أكاديمي حقيقي لها.
رافق مدني صالح ابن طفيل وسابق حي بن يقضان لبلوغ اليقين الفلسفي وكأنه يحفر نفقا سريا في جدار المحظور ليمرر منطق العقل من دون ان يخل بسلطة النقل الغالبة. مدني صالح توقف كثيرا عند حي بن يقضان، والتي الصقت بابن طفيل ظلما لان مؤلفها الحقيقي هو ابن سينا ثم عدلها ابن النفيس. ولدلالة الحي وبن يقضان سحر غامض يجسده مدني صالح في نقض الوثنية التي تسكن في التابوات الوراثية، فهو يرى نفسه (أسال) الحكيم مرة” ومرة أخرى يراها (حي بن يقضان)، فكلاهما يعيشان في حتميه قاسيه بين الطبيعة والتطبع، فتمتد قامة مدني صالح بعيدا , لتثير الأسالة الكبرى التي تعودنا ان نسمعها منه، فيقول مثلا اننا لا نعرف بشكل مطلق ان كان سلوك الانسان هو فطرة العقل، ام هو تراكم كمي للخبرات الإنسانية, وهو  أيضا لم يتوقف عن تلقيننا  في حوارية المنطق والاستقراء من ان الصدفة غير قادرة على الوجود وفي نفس الوقت  غير قادرة على العدم   وهي نفس المعنى الذي أوقف كارل ماركس كثيرا” ليقرر من ان الصدفة هي فقط إشاعة صنعتها الطبقة المتحكمة في وسائل الانتاج لتصدقها الطبقة المستغَلة من اجل تعطيل قدراتها على الفعل الإنساني, وبهذا يبرر  مدني صالح الفلسفة  المشرقية في استنادها على ابن سينا لقراءة وفهم  الوجود والعدم من خلال تقرير الإرادة والعقل في الفعل الإنساني. وهو اول من كشف ان أصل رواية روبنسون كروزو لمؤلفها (دانييل ديفو) هو من وحي حي بن يقضان، وان معظم فلاسفة الغرب هم تلامذة وان أبو لفلسفة الشرق العريقة.في كتابه خراب الفلسفة يرى مدني صالح ان درس الفلسفة يتم تعاطيه أكاديميا في الشرق على أسس استشراقيه، وليس منهجا شرقيا اصيلا، وان ما يحكم العالم الان ليس المنطق بل هو القارون (المال) ,فيقول ان “المنطق يقوي حجتك وينصرك على خصومك اذا كنت غنيا ولكنه لا يقوي حجتك ولا ينصرك اذا كنت فقيرا ضعيفا”  وهذا ما جرى على ثقافة الشرق, فبعد سقوط حواضر العرب مات تراثهم, ليس بسبب فساده وانما فقدانه لقوة التحويل من الإمكان الى الفعل والانتشار والسيادة.
وصف هيجل بانه مغاليا ومنغلقا، لأنه لم يستشرف التاريخ ولم يرى هتلر في مخيلته، اذْ يقول “لا أجد هيجل إلا معقدا متحذلقا وارهابيا متدافعا يدعي النظر في التاريخ ولا ينظر الى الماضي ولا يتعظ ولا يتدبر ” وهو المنطق الذي برر به فساد وعدم واقعية فلسفة نهاية التاريخ في المدرسة الهيجليه.
 ختم خلاصة فكره بأن الفلسفة واحده في العقل البشري بناء” على وحدة اللامتناهي، ووحدة الكون، وأنها يجب ان تنحسر وتطلق الفضاء للعلم، لتعيد بناء العقل من جديد بعد هذه الرحلة الطويلة بين الحضارات.
في احد الأيام وبينما كان مدني صالح يجري لقاء اذاعيا في برنامج رسائل جامعيه، وكان صوته مجلجلا كانه القدر ,يصدح بالحقيقة ولا حيلة لاحد بإيقافه وهو يطلق سهام النقد يمينا وشمالا لكل شيء حوله بلا قدر من الخوف, وبالصدفة سمع  الرئيس حينها احمد حسن البكر  احد الحلقات, فاصدر قرارا” جمهوريا بمنع مدني صالح من حضور أي فعالية ثقافيه او مقابلة أي وسيلة اعلام, وبقي محاريا” بدون ادنى اهتمام من مراكز القرار والثقافة العراقية الى اليوم الا ما ندر.
[email protected]