18 ديسمبر، 2024 11:25 م

يعيش الكركوكيون على متن سفينة عائمة على مياه تتلاطم أمواجها، وتسير نحو المجهول. وربانها لايملك القوة ولا أي إطار قانوني أو سياسي أو أخلاقي لكي يواجه التحديات ويضبط سلوك العناصر الضعيفة والفاسدة المحيطة به، ناهيك عن القوى القوية التي صعدت على متنها في غفلة من الزمن، والتي تساهم في تسعير التنافس على الهيمنة، وتستخدمها منصة لتأسيس أمجاد شخصية فارغة، وللوصول إلى مآرب عنصرية وطائفية مقيتة.

الفوضى هي الظاهرة السائدة والمعبّرة الحقيقية عن نوعية العلاقات التي تجمع بين من هم على متنها، ويتنازع، عليها وعلى كل شيء فيها، جميع الذين فضلوا السير في طريق الغطرسة من أجل أوهام مستحيلة، لإثبات وجودهم وتحسين مواقعهم وتأكيد شرعياتهم وإختياراتهم، وللحصول على مكاسب منتظرة، والسيطرة على مستقبلها القريب والبعيد معا. أما الفساد فيضرب أطنابه ويحاول إجهاض الجهود التي تراهن على الخروج من المخانق والطريق المجهول الذي قادته إليه العائشين في هوس وشهوة السلطة ومراكمة المال والثروات.

 بفضل الفوضى العارمة والفساد المستشري، وكنتيجة طبيعية ومنتظرة لمراكمة الأزمات والإخفاقات، ومشاهد التراجيديا الإنسانية التي تذل وتهين، لم يعد هناك كركوكي واحد، سواء كان غنياً أو فقيراً، قادراً على الإطمئنان لأمنه أو الثقة بمستقبله وإستقراره الاجتماعي والسياسي. وبعضهم، يرتعب ويعرب عن خشيته من تحويل كركوك بشكل كامل إلى منطقة لعبور وتقاطع مصالح الأخرين ومسرحاً لتصفية الحسابات المعلقة بين المتصارعين، والآخرون يعلنون صراحة حنينهم إلى النظام الاستبدادي الصدامي، ويعيدون تثمينه وتثمين كل السلبيات التي رافقه من قمع ممنهج وقهر وإحتقار وإذلال وخضوع لسياسات التدجين وضبط السلوك والتأهيل للعبودية والطاعة من خلال القمع والعقاب، وخسائر في الأرواح والممتلكات وانهيارات في القيم.

وفي كركوك وخارجه، الكثيرون يرمون مسؤولية ما حصل في المدينة وضواحيها من إخفاقات وإنهيارات، على سياسات الآخرين، وأكثرهم لا يخفون تبنيهم لروح التهرب من القانون والتمرّد والاعتراض والاحتجاج عليه في سبيل توسيع دائرة نفوذهم وإنتزاع المواقع الإدارية والسياسية بأكملها، وتأبيد السلطات والمغانم والمكتسبات. بينما المشكلات التاريخية المديدة تتعمق، والأزمات السياسية تتفاقم، وكل الآمال مهددة بالتفكّك والانحلال، وجدران التعايش آيلة الى السقوط، والأوضاع المترنحة على شفير الهاوية، وتتجه نحو التفجير وربما الخروج عن السيطرة.

السؤال الذي يبرز بقوة هنا، هو: كيف يتوقف في القريب ما يعيشه الكركوكيون من أزماتٍ ملتهبة وتوترات متواترة، وكيف ترسو سفينة مدينتهم على شاطىء الآمان والإستقرار ؟

الحل يكمن في مواجهة الأزمات التي قادت الى السياسات الكارثية، وتركيز الجهود على استدراك ما فات، وحجم التحدّيات الحالية والمهام التي تنتظر الذين لم يفقدوا شرعيتهم وعلاقتهم لوضع الخطط لإخراج الكركوكيين من دائرة الصراعت الدائمة، وحالات اليأس وإنعدام الأمل والقنوط. ويكمن في إستعادة المبادرة بتنفيذ الدستور، وتجفيف ينابيع ومستنقعات الأفكار الإنكارية التي لا يمكن إحراز أي تقدم اجتماعي وسياسي مع وجودها، والعودة الى الانسجام والتجانس على أساس الدستور والمواطنة المتساوية والحريات الفردية التي تضمن للإنسان استقلاله الشخصي وتصون كرامته، والشراكة والتوافق والتوازن، بعيداً عن البدع والضلالات، وإستيعاب ما يرتبط به من قيم المدنية والحرية والعدالة والمساواة وحكم القانون. وبالتالي بلورة إرادة، وبناء إستراتيجية وطنية ناجعة تحمي الجميع من التهديدات، وتقود سفينة كركوك نحو شاطىء الآمان.