23 ديسمبر، 2024 4:42 ص

سعيد خطيبي مقتفياً ضوء «نجمة»

سعيد خطيبي مقتفياً ضوء «نجمة»

أكثر ما يشدّ ذهن القارئ إلى رواية “حطب سراييفو” هو الغنائية التي تطبع النصّ. لا تفضي للمتلقي بكامل أسرارها، بل تنسج خيوطها على مراحل وفق إيقاع يختزل جمالية ويحترم ذكاء قارئها. لازمة رواية “حطب سراييفو” هي دون شك “مرارة الأشياء تزيد من حلاوتها”، التي لا تمل “سلافينكا” أم بطلة الرواية “إيفانا”، المتديّنة وشديدة التطير، من تكرارها. تعويذة تتكرّر على مختلف مراحل الرواية على لسان أكثر من شخصية لتغدو بمثابة اﻟ”tempo” المصرح به لإيقاع الرواية الذي بني على تناغم الأضداد: فرح وخيبة، سعادة وحزن، نشوة ثم حزن شديد، لا شيء ثابت سوى إنسانية البشر المفرطة التي قد تفضي بهم إلى ارتكاب أبشع الجرائم باسم ما يظنّون أنّه الحقّ (من مقتل “الزهرة” إلى مصرع “سي حمد” مرورا بمقتل “أنتون”، جنون “آنتشي”، خيانة “مليكة”، إلخ).
على الرغم من بنائها الثنائي ذو الصوتين (المتعادلين تماماً) فقد بقيت الرواية هادئة حتى نهايتها المفتوحة، غير المتوقعة. من الجماليات التي اتسمت بها رواية سعيد خطيبي الأخيرة أنها تروي قصص ما سيصير لاحقا نصوصا أدبية تخييلية بدورها تحمل اسم الرواية ذاتها: مسرحية تكتبها “إيفانا” وتعرضها في سراييفو، يساعدها “سليم” في ذلك، وسلسلة قصص متخيلة ينشرها “سليم” في جريدته الجديدة معتمدا أيضا على شهادات “إيفانا”.
يتجاوز الأمر مجرد نوتة أو نوتتين موفقتين ليغدو النص سحابات دخان ينفثها مدخن بارع سرعان ما تتلاشى في فضاء غير المتوقع الرحب: لا يمكن للقارئ أن يتنبّأ بمصير الشخصيات، المثخنة بالمفاجآت والأسرار التي يفرج عنها تدريجيا حتى آخر صفحة من الرواية.

في أثر “نجمة”
تختتم رواية “حطب سراييفو” على مقطع من قصيدة للشاعر السلوفيني “فْرنسي بْرشرن” يقول فيها “لست أبصر في السماء سوى نجمتين…عينا حبيبتي الجميلتين” يخطّها “سليم دبكي” تحت صورة أمه وهو يكتشفها للمرة الأولى. نجمتان يستحيل على “سليم دبكي” الإمساك بهما أو تطويقهما، انطلاقا من عيني مليكة المخادعة، إلى عيني أمّه الراحلة مرورا بعيني “إيفانا” المترددة. والحقيقة أن الإيقاع يضبط منذ بداية الرواية حين يستعين المؤلف بمقطع للشّاعرة البوسنية “فيسنا هلاوتشك” يقول فيه “نحن إخوة في الألم غير ذلك فكل شيء يفرقنا”، يغدو الحبّ مستوى آخر لقراءة “حطب سراييفو”، حبّ مستحيل على الأغلب، يسعى إلى استحداث مكان في الرواية دون جدوى، ربما لأن الحب والحرب أمران متناقضان تماماً، لا يمكن أن يلتقيا، أو على الأقل ذلك ما يسعى المؤلّف لإثباته عبر مختلف أجزاء الرواية الأربعة. على المرء أن يختار الحرب الداخلية أم الخارجية، فكم هو منهك القتال على جبهتين. حربان تستنزفان الإنسان وتحيلانه حطبا يؤجّج نارها.

لم يرد مقطع “بْرشرن” عبثا، فتوليفة النّساء المستحيلات التي استعان بها المؤلف تُعيد إلى الأذهان رواية “نجمة” لكاتب ياسين. نجمة المرأة اللغز التي يستمد منها شخصية مليكة حبيبة “سليم دبكي”، الجبارة، صاحبة “عيني الجنية” (يمنى زرقاء ويسرى بنية)، المتملكة حيث يقول على لسان بطل الرواية: “تزعم أنها تقدّر حريّتي الشخصية ولكنها تريد أن تتملكني. […]” إذ تسكن قلبه وعقله، تؤثث أحلامه ويقظته، مادة هلاوسه ومنتهى رغباته، يعجز القارئ على إدانتها تماما كما يعجز عن التّعاطف معها. تهدي حبيبها كل شيء ثم تسرق منه كلّ شيء، امرأة زئبقية، كلما اعتقد أنه تملكها فلتت منه. “إيفانا” الصوت الثاني في الرواية وبطلتها التي تحكي يوميات الدّم في سراييفو تبدو أيضا امرأة مستحيلة، لكن على الرغم من استحواذها على مساحة مماثلة للمساحة التي حظيّ بها الصوت الرجالي، ورغم تداخل حياتي الشخصيتين إلا أنها لم تتملك “سليم” (ولا هو تملّكها سوى خيالا). أمُ البطل قصة أخرى للمستحيل وتلاعب القدر بمصائر البشر، ومصير سليم تحديدا الذي لم يعرف حقيقتها سوى في نهاية الرواية.
رواية عن الدّم
إن المؤلف الذي اختار “أن يتكلم بفم مغلق” جعل من الدم بكل رمزيته ثيمة أساسية للرواية. مصائر كلّ شخوص الرواية تبدو وثيقة الارتباط بأنسالها و أنسابها، بتركة الآباء الثقيلة والغبية في آن، التي يمكن في كلّ لحظة أن تشعل حربا عمياء لا تبصر، لها اسم و أسباب في “سراييفو” في حين يعجز المتورطون فيها – رغما عنهم – عن تسميتها في الجزائر، يطلقون عليها: “الجمرة”، “الحيّة” أو يكتفون بمجانبتها والتظاهر بعدم رد البال لها. يأتي كلام “سي أحمد دبكي” (عم سليم الذي يكتشف فيما بعد أنه أبوه الحقيقي) الذي عرف البلدين بشكل جيد وشارك في حربيهما: “[…]الناس يتحاربون في البلقان، بعدما عجزوا عن إيجاد قسمة عادلة للتاريخ، أما نحن فلم نصنع تاريخا لنتخاصم من أجله[…]”. يبدو أن المقدر للبشر أن يكتبوا قصة الدم (التاريخ) بالدم (الحروب). الكاتب الذي استبق عمله بعمل بحثي كبير في الجزائر والبوسنة والهرسك وتعرف من قريب على أبطال يوميات الحربين جعل من الرواية فضاءً للبرهنة على تساوي البشر في كلّ شيء، فمن خلال إعادة بناء تاريخ حربين “باعدت بينهما الجغرافيا و قربّهما التاريخ” برهن على غباء فكرة الحرب في ذاتها و ثقل إرثها، من خلال شخوص بسيطة، أبطال يوميات القذائف والخوف في ثقافتين وقارتين وديانتين وعلى لسان بطلين، رجل وامرأة، برهن على أن مصائر البشر واحدة مهما اختلفت الحيثيات، لا جدوى من البحث عن صناعة تاريخ نقي، في النهاية كلنا أبناء الخطيئة: لا حقيقة في حياة “سليم” سوى أنه ابن “الزهرة”، أما “إيفانا” فأبوها هو الآخر نتاج علاقة ممنوعة. يرى “سليم” أننا “لم نصنع تاريخا يجمعنا بل صنعنا غيتوهات وتوزعنا فيها”، في حين ترى “إيفانا” أن “الحقد صناعة بوسنية. لسنا إخوة سوى في الحقد، عدا ذلك فكلّ شيء يفرقنا”. يستميت الكاتب دفاعا عن المؤنث في الحياة والتعاطف معه من تلك التي اعتقدها أمّه إلى خالاته، مرورًا بمليكة وأختها وحتى إيفانا التي تسبّبت بمقتل عمّه، أوجد لكل واحدة منهن تبريرا لواقعهن بسلطة “البطريركية” الأب والزوج، وكل ما أوجد البنيات الاجتماعية السائدة، وحده الدّم (الأب والنّسب) ما يبرر إراقة الدم (الحرب والحزن).
الأمكنة خارطة الأرواح
إن من يتابع أعمال سعيد خطيبي الروائية وغير الروائية يتلمس اهتماما كبيرا بتوصيف الأمكنة. خصوصية روايته الأخيرة، حيث أعلن منذ العنوان عن عظمة شأن المكان في ربط الأفكار الأساسية للرواية في مجملها، المكان هو الشيء واللاشيء في آن ينتفي إذ يوجد، المكان هو أرواح البشر الذين يسكنونه، له قدرة على صوغ الأرواح. نتعرف على إيكولوجيا المدن والأحياء من خلال مختلف أحداث الرواية وكذا على ألسن الشخصيات. بضعة شوارع في”العاصمة”، “بوسعادة” وكذا الطريق بينهما. نتعرف على لسان “إيفانا” على “سراييفو”، تاريخ “البوسنة والهرسك” وكذا “يوغوسلافيا”، ثم نتعرف بالتدريج على لساني البطلين على التوالي على “ليوبليانا” ومنها على قصة “سلوفينيا”. تغدو الأماكن شخوصا تجاور شخوص الرواية وهم يدورون في فلكها، يحبونها أحيانا ويحقدون عليها أحيانا أخرى، تتلاعب بهم وتعبث بمصائرهم خالطة الترحاب بالجفاء. تؤثث الأماكن بامتياز لأحداث الرواية، تعبر عن مستوى صامت في الرواية ولكنه ذو قوة هائلة. يقول “سليم” بطل الرواية: “سراييفو اسم يتردد كثيرا في الصحف والتلفزيون. أتخيلها امرأة طويلة القامة، معوجّة الظهر. هي مدينة مخدوعة، مثل الجزائر العاصمة، تعيش في قلب فقاعة من الزيف”، ثم يضيف في مقطع آخر: “[…]الناس في ليوبليانا لم يكذب عليهم المنجّمون مثلما كذبوا علينا، لم يتسلل نواطير الأرواح إلى مخادعهم، ولم يستبح الغرباء خلوتهم. لم تصل إليهم المسوخ، التي نبتت شرقا، ومزّقت رحم سراييفو، التي كانت، لنصف قرن، أختا كبرى لهم، قبل أن ينفصلوا عنها[…]كانت سراييفو أختا لليوبليانا في سنوات العزّ، ثم صارت أختا للجزائر في سنوات السقوط[…]”.

الانتماء الثّقافي
تعيد رواية “حطب سراييفو” مسألة الانتماء الثقافي لها، لكاتبها وللجمهور القارئ إلى الواجهة، على الرغم من ضرورة تحرّر الفن عموما من كل القيود التي تجعل المبدع يفرض رقابة ذاتية على مؤلًفه. تلامس رواية “حطب سراييفو” الإيروتيكية دون أن تسقط فيها، فلا تحتوي الرواية على مشاهد جنسية على الإطلاق، عدا إشارات درامية ضرورية لضبط إيقاع الرواية العام. إعادة بناء مشاهد من الحياة اليومية لشباب في التسعينات تُروى على لسان صوتي الرواية “ايفانا” و “سليم”، بين ثلاث بلدان أساسية وعدد لابأس به من المدن. لم يرافع سعيد خطيبي على طول الصّفحات الرواية عن فكرة معينة مباشرة، بل جعل شخوصه تروي بسلاسة قصصها دون أن يضغط عليها، أو يقوّلها ما يريد أن يقول. إن مسألة تلقي المؤلَف الفني (لا أحبذ تسميته بمنتج) هي مجس نبض للحالة الاجتماعية لأي مجتمع، وفي حالة المجتمعات التي انحسرت فيها ممارسة الفعل الثقافي في نخب بعينها، ومساحات جغرافية معينة إضافة إلى إدانة مستديمة له من طرف أصوات رجعية لها صدى خصوصا في الأوساط الأقل تنورا تعمق من جراحات مجال يفترض أن يلعب دور البوصلة، ومجالا لطرح كل الأسئلة الممكنة، التفكر في المطارح التي لم يلامسها العقل الجمعي. يجب أن ينأى تأويل الأدب بنفسه عن التبسيط الذي يطالب به العقل البسيط، وعن أداتية الأيديولوجيات المتنوعة، بل أن يفرض أيديولوجيته الخاصة التي تقوم على الاستحداث، والدفاع الحرّ عن الأفكار دون أن يقع تحت طائل التجريم مهما كانت طبيعته.

نقد النّقد
تبدو حركة النّقد عموما في الجزائر حركة متعثرة على الرغم من وجود الكثير من الجامعات وغيرها من القنوات التي بيدها مسألة دفع الحركة النقدية عموما من خلال المنجزات الأكاديمية وغير الأكاديمية التي يعوّل عليها في تثمين الجهد الأدبي العام والوطني بوجه الخصوص، التعريف به وتقريبه من القارئ العام والمتخصص. ضعف الحركة النقدية واحتشامها، يضاعف أزمة الإنتاج الأدبي الجزائري خصوصا حين تتحول إلى تصفية حسابات شخصية بين الناقد والمؤلف على حساب قراءة موضوعية للأعمال الفنية بصورة عامة. لم تشذّ رواية “حطب سراييفو” عن القاعدة، فعدد الأعمال النقدية الجزائرية التي تناولت هذه الرواية لم تتجاوز العشرين على أقصى تقدير على شكل مذكرات تخرج جامعية في الأغلب، في حين أن الرواية قد نفدت منها طبعات داخل الجزائر وخارجها. الشيء ذاته تقريبا عرفته رواية “سعيد خطيبي” السابقة “أربعون عاما في انتظار إيزابيل” (2016) التي كانت لحظة مفصلية في استعادة تاريخ الرحالة السويسرية “إيزابيل إيبرهارت”، وهي اليوم قد أصبحت مرجعا في البحث حول هذه الشخصية التي تخبرنا الكثير عن تاريخ الجزائر وغير الجزائر في فترة زمنية معينة، دون أن تعرف نشاطا نقديا يليق بقوة النصّ على الرغم من النجاح الجماهيري الذي حققته ونفاد نسخها.