منذ اكثر من اربعين عاما وانا أتابع سعدي يوسف . أتابعه شعريا يوما بيوم واتلقف كل كلمة تصدر منه . وانظر الى كل كلمة بمثابة وثيقة وموقف . قبل مدة كتبت له راجيا ان لا يصمت ابدا . ان لا يتوقف عن الشعر لحظة واحدة , ان يقول الشعر حتى وهو نائم . كتبت له اننا نريد تسجيل انفاسه . فحتى انفاس سعدي يوسف هي شعر .
غير اني فوجئت بنص له بلبلني . اربكني ووقفت حائرا ازاءه . وضعني هذا النص امام حالة من الاضطراب لا عهد لي بها . كان النص اشبه بعبوة ناسفة انفجرت في وجهي . جرني النص بالتدريج الى مراجعة سعدي يوسف ومواقفه من عملية التغيير التي جرت في العراق . كان النص هو الانفجار الاكبر لهذه المواقف .
وجدت تطابقا غريبا بين النص واللغة التي يستعملها الارهابيون من التنظيمات الجهادية والسلفية في نعت خصومهم .
بدا النص وكأنه تصريح لواحدة من تلك التنظيمات المسلحة . بحيث اننا لو رفعنا اسم سعدي ووضعا بدله اسما لواحدة من تلك التنظيمات لبدا الامر عاديا جدا ولا يحدث اية غرابة . لغة النص يمكن العثور عليها بسهولة في تعليقات الملثمين ( غالبا أعضاء في منظمة القاعدة او رجال مخابرات سابقين ) في مواقع الانترنت والتي تتمحور على استخدام اكبر مخزون من الشتائم والطعن وتسقيط الخصوم وبث الاشاعات واثارة الغرائز العدوانية والكراهية المفرطة . ويكاد يكون غشاء البكارة هو القاسم المشترك لجميع هذه التعلقات , حيث تهمة الأغتصاب هي اول ما يلصق بالخصوم .
( الفلّوجةُ تنهضُ – سعدي يوسف –
الأميريكيّون
والبيشمركه المرتزقون
وعصاباتُ إياد علاّوي
هم مَنْ سـمّى الفلّوجةَ ، هيروشيما …
هم مَن سمّمَ أرحامَ بناتِ الفلّوجةِ
باليورانيومِ
وبالفوسفورِ الأبيضِ …
هم مَن جاؤوا ، الآنَ ، لينتقموا من إسمِ الفلّوجةِ .
جاؤوا باسمِ السيستانيّ :
أوّلِ مَن أفتى ، في الإسلامِ ، بِـنُصرةِ محتلٍّ كافرْ
السيستانيُّ الكافرْ
أوّلُ مَن أفتى في الإسلامِ ، بنُصرةِ جيشٍ كافرْ
السيستانيُّ الفاجرْ
مأواهُ جهنّمُ
بِئس مقّرٍّ …
لكنّ الفلّوجةَ تنهضُ
إنّ عراقاً عربيّاً ينهضُ …
إني أنهضُ !
لندن 29.01.2013 )
العدوانية المفرطة هي جوهر هذا النص . اذا كنت اعذر الملثمين على هذه العدوانية لأنهم يحتاجون اليها في عملهم . فكيف افهمها حين تصدر من سعدي يوسف ؟ سعدي يوسف هو ثوري وليس عدواني. فمن اين تسربت اليه هذه العدوانية ؟
ماذا يجري ؟
كيف يتسنى له وصف السيد علي السيستاني بالفاجر ؟
ماذا دهاك ياسعدي ؟
(الفاجر) هذا , يا سعدي , هو مرجع روحي لعشرات الملايين من العراقيين والايرانيين والافغان والعرب وغيرهم . وبقوة هذه الزعامة فقد منع هذا ( الفاجر ) حربا اهلية كادت تندلع عام 2006 . أمر بضبط النفس بعد نسف ضريح الامام العسكري و أصدر فتواه بحرمة قتل العراقيين على الهوية .
تختلف زعامة السيستاني كليا عن الزعامات الاخرى , بكونها سلمية مئة بالمئة , طوعية ولا يقف وراءها مسلح واحد .و بقوة هذه الزعامة فقد أفتى السيد السيستاني بوجوب الذهاب الى صناديق الاقتراع .
الا تروق لك صناديق الاقتراع يا سعدي ؟
هل لديك طريقا افضل لحل مسألة الحكم في العراق ؟
. لقد وضع السيستاني صناديق الاقتراع بمنزلة الفريضة الدينية , وهذا لوحده يجعله في مقام رفيع ووضع استثنائي متفرد يخرجه من دائرة الحوزة الدينية التقليدية و الضيقة ليضعه في مصاف كبار الدعاة الى النظام الديقراطي قولا وفعلا . هذا هو( الفجور) الاكبر الذي ارتكبه السيد علي السيستاني .
اذا كنت يا سعدي لا تؤمن بصناديق الاقتراع فسيكون كل ما تقوله عن السيستاني مفهوما ولا يدعو للا ستغراب . ويصبح نصك منسجما تماما ومتطابقا مع نفسه .
أنا لست متدينا ولا يخطر الله في بالي كثيرا . أنا اعبد صناديق الاقتراع يا سعدي . أرى فيها حلا ومبزلا لكل السيانات القادمة والمرافقة للصراع على الحكم في العراق . من هذه الزاوية أدافع عن السيستاني .
اما حكاية ( نصرة المحتل الكافر ) فنحن لم نتفق عليها بعد يا سعدي , لا على مستوى الافراد ولا على مستوى الجماعات . لم نتفق كعراقيين حتى الآن ان كان الامريكي محتل ام محرر . هناك انقسام ياسعدي ينبغي ان لا تغمض عينيك عنه . وحتى لو ترددت كلمة محتل مليون مرة في الدقيقة الواحدة ( وحتى لو رددها الامريكان انفسهم ) فان ذلك لا يلغي التاريخ الذي مازال حيا ورطبا . الامريكان محررين ( على الاقل بالنسبة ل 80 بالمئة من العراقيين ) . حررونا من صدام وطغمته تماما مثلما حرر الناتو الليبيين من القذافي . وكان من الواجب الوقوف معهم ( نصرتهم ) وتقديم الشكر لهم بكل الصور المتاحة .
اسمح لي ان اخبرك بشئ لا يعجبك , هو انني حتى هذه اللحظة استخدم كلمة محرر ولم استعمل كلمة (محتل ) على الاطلاق . واستخدم تعبير تحرير العراق بدل سقوط بغداد .
اي محتل يا سعدي ؟ لقد ازاح الجيش الامريكي صدام ومعه كل الضباع و الوحوش الضارية : وطبان وبرزان وعلي كيمياوي وسبعاوي وعدي وقصي وعواد البندر وعبد حمود وووووو مع كافة أجهزة القتل والذعر التي دفعتنا ( أنت وانا وملايين العراقيين ) الى الهرب واللجوء للمنافي . لقد ازاح الجييش الامريكي كل هذا ووضع بدله صناديق الاقتراع ولكي يحمي هذه الصناديق كان عليه ان يمكث بعض الوقت حتى يسلم المهمة للعراقيين . مكث ليؤسس لنا جيشا قادرا على حماية صناديق الاقتراع وحين بدا ان الجيش العراقي الجديد قادرا على اداء هذه المهمة رحل الجنود الامريكان وسلمونا ثكناتهم ( ولو انني شخصيا كنت اود بقاءهم مدة اطول حتى يطمئن قلبي تماما ) .
ما تبقى هو شئ يخصنا نحن العراقيين . ما يدور من خراب وطحن مدين في الكثير من اجزائه الى طبيعتنا و نسيجنا المتهتك . انها قصة اخرى طويلة وقديمة وهي اقدم من امريكا وجيشها . واذا تواضعت يوما وقبلت ان احكيها لك فسوف لن اقصر .
ثم ماحكاية الكافر يا سعدي ؟ . منذ متى وانت تستخدم مثل هذه المفردات . ؟ كيف تسربت اليك لغة كتائب ثورة العشرين وجيش محمد والحزب الاسلامي والنقشبندية وتنطيم القاعدة في بلاد الرافدين .
. لقد كانت هذه المفردات تستخدم لتبرير قتل الشيوعيين و سحلهم في الشوارع . أين ذاكرتك البديعة يا ابا حيدر ؟. لقد سجلتها لنا بحروف من ذهب وحفظناها مثل الأغاني . الا تتذكر تنظيمات الحرس القومي في الكرخ والفلوجة والرمادي والاعظمية والموصل ؟ أنها نفس المدن المتمردة الآن , وهي نفس المدن التي اعدمت الزعيم عبد الكريم وبصقت بوجهه. كلما اراد التاريخ ان يتبدل و يتقدم الى الامام يخرج الاقوياء في هذه المدن ليوقفوه . هذه المدن يا سعدي يسيطر عليها الاقوياء والمسلحين ألآن ؟ اضيف اليهم صنف جديد اسمه الذباحون . لا مكان لك فيها يا سعدي . لن تعثر على قارئ لك هناك .
. كيف تنهض الفلوجة وهي مليئة بالمسلحين ؟
كيف تنهض وهي محتلة من قبل السلفيين والجهاديين ؟ كيف تنهض وهي مفرغة من الشعراء والمغنين والرسامين والمسرحيين والكتب والمعارض التشكيلية والبارات والنوادي الاجتماعية والمسارح ؟. كل هذا اصبح غير ممكنا بعد ان سيطر الارهابيون على المدينة . وبدل غونتر غراس سوف تستقبل الفلوجة بعد ايام يوسف القرضاوي كأول زائر محتمل لهذه المدينة بعد (تحريرها ). بالمناسبة ما هو رأيك بالقرضاوي ؟ ماهو رأيك لو ذهبت الى الفلوجة والقيت قصيدتك في حضرته ؟.
سوف اسألك سؤال من نوع (من يربح المليون ) وبأمكانك الاتصال بصديق اذا كنت لا تعرف الاجابة
من سيدفع تكاليف سفر القرضاوي (تذكرة الطائرة التي ستقله الى اربيل ثم برا الى الفلوجة )
1- قطر
2- السعودية
3- تركيا
4- البارزاني
ما ذا سأفعل بميراثك العظيم ؟ اين أضع هذا النص . اين احشره ؟ كيف سأدافع عنك يا سعدي .؟ ايها القطب الشعري . كيف سأدافع عنك امام الحقيقة العارية ؟ امام حفلات الدم اليومية والذعر المتراكم . امام تطاير الاشلاء الذي لم يعد يعني احد بعد ان تحول الى ضجر يومي ؟.
امام كل عبوة انفجرت وتلك التي لم تنفجر وتلك التي تنتظر الانفجار ؟.
كيف سألقي قصائدك التي حفظتها طوال تلك السنين في مدينة الحلة التي اعطت في يوم واحد مئتي ضحية جلهم من بائعي الخضار.؟
كيف سأدافع عنك في سوق الصدرية الذي نسف اربعة مرات ؟
وسوق الشعب وكنيسة النجاة وعرس الدجيل وامام فريق التايكواندو للناشئين ؟
ومئات الكيات ( مفردها كية وهي باص صغيرة سعة 11راكب ) المفرغة من راكبيها في طريق الموت بين الدورة و المسيب .؟ كيف سأدافع عنك في طريق النخيب والمدائن وتلعفر وطوزخرماتو ؟
. كيف سأدافع عنك في جسر الأئمة ؟ . لم يكن هناك عبوة لتنفجر . أنفجر شئ آخر ياسعدي . انفجر الذعر فأغرق 1000 عراقي وعراقية في ساعة واحدة .
القائمة طويلة ومفتوحة يا سعدي . والقائمون على هذه الحفلات هم الذين يقودون الآن مظاهرات الغربية .
ماذا دهاك يا سعدي ؟
هل وصل بك الامر انك لم تعد تميز بين القاتل والقتيل ؟