23 ديسمبر، 2024 10:18 ص

سعدي عبد الكريم … أميرُ صعاليك بغداد

سعدي عبد الكريم … أميرُ صعاليك بغداد

استخدم الوصف ليُعرف بخلجات التاريخ
فعلَ وحدة السرد المترافق مع المثل وفق الزمان والمكان
ذهب سعدي عبد الكريم لبناء قصيدته مستنداً على أربع ركائز ، الموروث الديني ، والقصص التاريخي ، والفن الروائي، إضافة الى المفهوم السياسي . فجاءت قصيدته جامعة هادفة بلغة سلسة ، احتوت على صيغ النقد اللاذع وإشارات التنويه الى العلل وما يصاحبها من تقلبات تكوينية اجتماعية فرضت على المجتمع تبدلات الحالة المعاشة.

بدء من القصص القرآني كعبرة متخذا من قصة موسى ( عليه السلام) مفتاحاً لتوظيف التأثير النفسي للدين على المتلقي، كونه يخاطب جمهورا شكل عنده الديني هاجسا ثابتاً على قدرة التغيير من خلال المعجزات ، فذهب يصور التبدل الذي يرمي إليه من خلال ما ينتظره الإنسان من معجزات جسدها الله عز وجل بكتابه الحكيم في القصة المعروفة، والتي دارت أحداثها مابين سيدنا موسى وفرعون مصر الحاكم المطلق الذي عجز عن مجاراة معجزات موسى بوسيلة بسيطة جداُ لا تعدوا أن تكون ( عصا )، لكن قوة تلك العصا الروحية كانت أكبر من تأثير ما سواها.

عملية توظيف التاريخي عبر السرد لمحاكاة ذاكرة القارىء بعمق الموروث وتشعباته نحو دعم النص بأمثلة من تجارب الحياة، هي صيغة عمل متقدمة على ما سواها حين يذهب الشاعر لاستخدام الموروث بكل أشكاله ويبني عليه قوالب قصيدته ، أو شكلها الدرامي، بحيث تمتلك أسس النجاح دون عياء، إن أجاد حينها الوصف والتداخل بفنية مع السرد، وتوظيف عناصر العمل الفني الدرامي والبناء عليها، لتظهر القصيدة وكأنها وحدة درامية متكاملة لا شائبة فيها.

وهو ما سعى إليه سعدي في مطلع قصيدته ( أمير صعاليك بغداد) ليترك ذلك الأثر النافذ في نفسية المتلقي ، حين تشده وحدة السرد المترافق مع صورة المثل المستخدم وفق الزمان والمكان و تراتيب العمل الفني في السرد.

سأهش على غنمي بعصا موسى

واشطر البحر نصفين

واقرب إليَّ من الجواري اثنين .. اثنين ..

اثنين اثنين !…..

واحتال على السحرة في مسرحية (هاملت)

ولن اقتل الملك القاتل

وأعفو عن (أوديب) لأنه تزوج أمه

وأسملَ عينيه

وأخلصه من عقدة الذنب

عملية الخروج من التأثير المتراكم بحكم الديني تجسيداً لمعجزات لا قدرة حتى للأنبياء على افتعالها بعيداً عن الإرادة الإلهية ، والدخول في موازين الأعمال الفنية وما رافقها من إرهاصات كتابها ، والخوض في تفاصيل إبداعاتهم وتكريسها في ثنايا القصيدة ، وتحريك مساراتها على ضوء أمنيات من كتب ، وما تمنى ، هي في الواقع عملية استبدال إبداع بأخر ، على الرغم من التوظيف الذي قد يكون محبباً عند البعض ،ولا يستسيغه الآخرين ، إلا إن تكريس ما ذهب إليه أدباء وكتاب سابقون بأمانيهم ومن ثم توظيفها لصالح النص المكتوب بطريقة فنية رائعة هي تجربة جميلة ، تعيد تصوير ما تمنوا وفق أسلوب الشاعر الذي ينتهج هذه الطريقة .

لذا كانت استعارات سعدي عبد الكريم لأمنيات ( انتيكونا، تيمات،بيكاسو، آلدمو، موزات ، الفالس ) رائجة نافعة ، بقدر ما ذهب لإعادة الحياة لها عبر قراءتها من جديد من خلال أبياته، بنى سعدي قصيدته على معظم غيبيات الأدب ، فمن لا يريد سَبر أغوار العالم السفلي (لتيمات )، ومن لا تعجبه تكعيبية ( بيكاسو) ، لكن أن يكون هذا التوظيف بصيغة الأنا ، فتلك تعني تحولات المنهج الوصفي الى الواقعي حين نحصر صفة الإطلاق على الذاتية الفردية ، فتتحول الى ديكتاتورية لا تترك سبيلاً لذكر الأخر المخاطب إلا من خلال تجربتنا الفردية .

لذلك كانت بدايات أبيات سعدي في الشطر الثاني من القصيدة لا تخرج عن معنى (الأنا)، وإن أريد منها التعميم بالوصف ، لكنها جاءت بمحكم السرد مفردة لاتحمتل التأويل ( أطلق ، ألعق، أطفأ، اسبر، أعتلي ، ابتكر،اكتب،أرسم.. الخ) الاعتماد على المضارع في عملية البناء الوصفي للقصيدة يترك أثرا عند القارىء يفيد بالعزلة ، فالحياة واسعة ولا تخلوا من تجارب ، ولن يكون الشاعر هو المتفرد بالتجربة مهما علا شأنه أو وصل ذكره أصقاع الدنيا.

لذلك تكون عملية اكتمال المعنى في العمل الفني مبنية على تفاعل صيغ التخاطب وبناء الجمل وفق أصولها المعروفة ،والتنقل مابين الأفعال ماضيها ومضارعها وأمرها كل حسب السياق الفني المطلوب لاكتمال الجملة، سواء كانت اسمية أو فعلية ،ناقصة أو كاملة أو شبه جملة،لكن التعميم وفق هذا الحكم أيضا غير جائز، ولا ينفي الإبداع الذي ذهب الى تكريسه عبد الكريم بتفعيل المضارع وتسيده مشهد القصيدة الدرامي في شقها الثاني .

وأطلق للريح أمنية (انتيكونا)لمسك ضوء القمر

والعق رفات الأموات

واشرب دماء الأحياء

ولا أطفا ظمأى بماء الفرات

واسبر أغوار (تيمات)في عالمها السفلي

واعتلي صهوة الفرس الداهم

وظهر الجمل النائم

في السنة الأولى للهجرة

وابتكر لنفسي لغة أخرى غير العربية

سأكتب بلغة (بيكاسو) التكعيبية

سأرسمها بألوان الدمو ألوان الضيم

واعزف سيمفونية (موزات)على إيقاع (التانكو)

وأشدو بأغنية ناظم الغزالي على نغم (الفالس)

وهنا أراد سعدي عبد الكريم ولوج عالم الانتفاضة على كل ما هو سائد اجتماعيا ودينيا وركوب موجة المستحيل ، والدخول الى عالم المجهول ، فأنتفض على نبذ المجتمع ممن يخرجن عن الموصوف عرفياً ( أفرج عن ذوات الرايات الحمر) ، والممنوع دينيا بإباحته (شرب الخمر)، وعلى العرف والتقليد ( أساوي بين العبد وسيده) ، والولوج في خضم بحر الموت ، والمستحيل ( امكث في بطن الحوت) ،ناهيك عن المجهول في أقبية التعذيب ، وهذه بحد ذاتها ثورة على الظلم ، وأقبية التحقيق السري، وبتداخل المعنى الدرامي جمع سعدي مابين عصرين متباعدين ليجمعهما عبر صيغة التلاقي في النظرة والمنهج ( الأباطرة وشيوخ الفتنة).

انعكاسات وإرهاصات نفسية عاشها المجتمع ولفترات طويلة ، تركت أثرها على التفكير الجمعي للمجتمع ، جسده سعدي عبد الكريم في صيغة جمعه هذه لينفرد باسلوب سرده الجميل الذي تضمن تقلبات المعني الفعلي والحركي، وليترك تأثيره المباشر على القصيدة بانتقاء الكلمة المناسبة ورشاقة الفكرة التي عملت على سهولة إيصالها لذهن المتلقي ، والتفاعل معها وقبولها ، ما يترك التأثير العميق على نفس القارىء الذي يستسيغ مثل هذا الأسلوب المتحامل على الواقع المعاش بكل تبعاته.

وأفرج عن ذوات الرايات الحمر

وأبيح شرب الخمر في حانات الكرخ

وفي مقاهي الرصافة

وأساوي ما بين العبد وسيده

واركب بحر الموت

وامكث في بطن الحوت

وارتكب كل الجرائم الممنوعة

وابتكر أنواع أخرى للتعذيب لم يجربها الجلاد

ونفي أقبية التحقيق السرية

وأمحو تاريخ الأباطرة وشيوخ الفتنة

وقبل أن أوى الى فراش الموت

سألعن نهر العلقم لأنه من ألف عام ونيف

اجتهد في منع الماء عن سادة العرب

استخدم الوصف ليعرف عن ما ذهب اليه بكينونة نفسه معبراً عن خلجات التاريخ الذي ضمن فقراته بأبياته متناولا حقب تاريخية بذاتها ، ليشير الى دلائل تركت بصماتها على الواقع المعاش وصولا الى الحقبة التي نعيشها، اشار سعدي عبد الكريم الى تقلبات السياسة عبر ابياته ليرسم صورة الفاجعة في كثير من المواقع التي باتت شاهداً على دموية الحدث عبر التاريخ ، فكان تناوله للوصف اشبه بالدلالة التي تحدد الفعل ، وليُضَمن

خطابه تمنيات الخلاص عبر الإشارة للحدث من خلال الأمنية بالزوال ( الدعاء) ، ما يعني استحضار قوة الغيب المتمثلة بالقدرة على الخلاص حين لايجد المرء سوى طلب النجدة من القادر ( الله) .

تبني صفة الصعاليك أراد منها سعدي الخروج على المألوف ، كونها فرقة تعبر عن انتمائها بالفوضى ، وقد انتشرت في عهود بعينها ، وعرفت بهذا المسمى، ومن ثم أطلقت في العهد الحديث ( ثمانينات القرن المنصرم) على جماعة عرفت باسم ( صعاليك بغداد) كنا قد تناولنا شخصية بارزة مبدعة من تلك الجماعة في مقال سابق ( علي السوداني) وهو فنان وآديب مبدع ، عاش في بغداد وأنضم للصعاليك ، وتلقفته الغربة ولازال يعيشها فصولاً مطولة في عمان ( الأردن) .

أنا أمير صعاليك بغداد

وملك أموي مرعوب في الشام

وأمير مختل من أمراء بني العباس

انحني الآن في حضرة المذبوح من القفا

والمجدول في رمضاء كربلا

وأدعو من القلب على الساسة

بان ينفيهم الله

خارج أسوار الوطن

لأنهم سر من أسرار المحن

وكهنة معابد الدم

آه .. يا هذا الموت

أما تقترب !

سعدي عبد الكريم له العديد من المؤلفات في الشعر والآدب ، لانحصيها كاملة بل نذكر مقتطفات منها :

أميرُ صعاليك بغداد

الدخان

نبوءاتُ الريحُ

قصدية الانفتـاح على الأنساق الميثولوجية والنهل من المقدس في ديوان ( طقوس ممنوعة ) للشاعر العراقي عبد الجبار فياض

جمالية الاشتغال عبر توظيف الأسطورة في قصيدة (شجرة الابتسامة) للشاعر العراقي .. سعد ياسين يوسف

عليّ ٌ يا قرة عيني .. ويا وجعي

الى طائر المنفى .. صديقي شينوار إبراهيم

قصائد الشاعر شينوار ابراهيم ترشح كمادة لأطاريح الدكتوراه

جواز سفر كونيّ الى صديقي الشاعر شينوار إبراهيم

جنون الغربة

حلم ٌ .. يتسلل ُ في العتمة ِ

اعترافات ٌ متأخرة .. لعاشق ٍ بدائيّ

كوباني .. المدينة المُسرجة بالكبرياء