-1-
تنطوي نفوس الطغاة ، على حُبٍّ فظيع للذات، يتجاوز الحدود الطبيعية بكثير ، ويجتازها ليُكوّنَ ظاهرة غريبة ، لا تملّ ولا تكلّ من الاستحواذ على الأموال والنفائس والامتداد الأفقي في الارض الى درجة التخمة..!!
وحين يكون حبّ الذات على هذا النحو من العمق ، فلن يحظى الناس منه بحب حقيقي على الاطلاق، وتكون علاقته بهم قائمةً على أساس استخدامهم لتحقيق ما يريد ، فهي علاقة يسودها الاستعلاء والاستكبار .
-2-
وتبرز هذه الظاهرة بكل وضوح، في سيرة الحكّام الذين آلت اليهم السلطة، بعد انْ ذاقوا من مرارات الحرمان والفاقة والعوز ماذاقوا .
وكأنّهم بهذا النَهم يريدون أنْ يُعوّضوا ما فاتهم في الأيام الخوالي ..!!
-3-
ومن الأقوال المأثورة :
اذا كان ما يكفيك يُغنيك فكلُّ شيءٍ يُغنيك .
واذا كان ما يكفيك لا يُغنيك فكلُّ شيءٍ لا يغنيك …
وحيث انهم لا يعرفون سقفاً للتوازن والاعتدال يَقِفُونَ عنده، فانّ لهم مِنْ الرغائب المحمومة ، والشهوات اللاهبة، ما يتناسل ويتكاثر على مدى الأيام …
-4-
ثم إنّهم – ولنرجسيتهم العالية – يرغبون في ضمّ ما يُعجبهم، مما يملكه الأخرون، الى ملكيتهم وكأنهم لا يُطيقون أن يروا الآخرين في بحبوحة ورخاء …
وهذا من أبشع ألوان الضيق ، إنْ لَمْ نَقُلْ أنه اللؤم بعينه …
-5-
( والمنصور) العباسيّ ، هو واحدٌ من اولئك الجشِعين النرجسيين، وما ينقله التاريخ من الحكايات عنه ، يدخل في باب الغرائب والعجائب ، حيث يختفي عنده ما يجب ان يتحلّى به من لباقة ولياقة …
-6-
يحدثنا ياقوت الحموي في معجم البلدان ج4 ص361 فيقول :
” روي ان المنصور زار عيسى بن علي ومعه أربعة آلاف رجل، فتغدّى عنده وجميع خاصته ..”
وقد أعرضنا عن ذكر ما قدّمه (عيسى) لضيوفه من ألوان الطعام اختصارا للكلام …
” فلما اراد المنصور أنْ ينصرف قال لعيسى :
يا أبا العباس لي حاجة .
قال :
ماهي يا امير المؤمنين فأمرُك طاعة .
قال :
تَهَبُ لي هذا القصر “
إنّ اللياقة تقتضي أنْ يُقدّم (المنصور) (لعيسى) شُكْرَهُ على حسن ضيافته لا إبداء الرغبة بالاستحواذ على قصره ..!!
ولكنّ ( عيسى بن علي ) كان ذكيا ولبقا، واستطاع التخلص من الإحراج بما أبتكره من جواب حيث قال :
( مابي ضَنّْ عنكَ بِهِ ،
ولكني أكره ان يقول الناس إنّ امير المؤمنين زار عمّه فأخرجه من قصره ،
وشرّد عياله ،
وبعدُ :
فانّ فيه حرم أمير المؤمنين ومواليه أربعة ألاف نفس ،
فان لم يكن بُدَّ من أخذه، فليأمر أمير المؤمنين بفضاء يسعني ويسعهم، أضرب فيه مضارب وخيما وأنقلهم اليها ، الى أنْ أبنى لهم ما يواريهم”
الضن : البخل
أثار (عيسى بن علي ) مسألة تتصل بأقاويل الناس عنه ، إنْ سلّم القصر للمنصور ، وانّ هذه الأقاويل ستؤثر على كيانه الاجتماعي وتعرّضُه للاهتزاز …
وهل هناك إهانة أكبر من ان يقول الناس :
إنّ المنصور طرد عمّه !!
وشرّد عِيالَهُ …!!
وهو بهذا يُريد إشعار المنصور انّ مصادرته القصر لا تخلو من مردودات سلبية عليه …
اذا ان الناس سيقولون أيضا :
كيف استساغ (المنصور) أنْ يصادر قصر عمّه ؟
ان هذه العملية مشوبة بكثيرٍ من الانتقادات المُوجعة .
ثم أردف (عيسى بن علي) ذلك بانْ طالب المنصور في حال إصرارِهِ على انتزاع القصر من يده، على مَنْحهِ أرضا واسعة، يُقيم فيها مضاربه حتى يُتم بناءً آخر يواري أهله ..!!
وهنا أدرك المنصور :
انه لم يكن موفقاً على الاطلاق في إبداء تلك الرغبة المحمومة .. فقال :
” عمر الله بك منزلك ياعم ،
وبارك لك فيه ،
ثم نهض وانصرف “
-7-
واذا كان (المنصور) لا يكّف عن إبداء رغبتهِ بالاستحواذ على قصر عمّه عيسى بن علي ، فما بالك بقصور الآخرين ؟
-8-
وقد قرات مقالة بالأمس تقول :
ان احد السلطويين العراقيين ، بنى عدّة بيوت ، قُدرّتْ كلفة البيت الواحد منها ب7 ملايين جنيه استرليني، مع انه لم يكن يملك قبل سقوط الصنم ما يستطيع به بناء بيت متواضع ..!!
والسؤال :
أيهما أبشع :
ما حاوَلَهُ (المنصور) في الاستحواذ على قصر عمّه ، أم ما قام به السلطوي المغرور من نَهْبِ بيوت الجياع والبائسين والفقراء من خلال نهبه المال العام ؟!!