23 ديسمبر، 2024 12:21 م

سعادة سفير اليابان لدى العراق

سعادة سفير اليابان لدى العراق

رسالة الى سفير اليابان لدى العراق
سعادة السفير فوميو إيواي
بلغني نبأ انتهاء مهمتك كسفير لطوكيو في بغداد وتأثرت لقراءة النص الذي نشرته عبر صفحتك على الفيس بوك وضمّنته حزنك لمغادرة بلاد الرافدين التي استقبلك أهلها بمشاعر الترحيب وأحاطوك بالمحبة والدفء طيلة سنوات اقامتك فيها … أود أن اعلمك سعادة السفير أني، وعلى الرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على مغادرتي العراق واستقراري الحالي في نيوزلندا،أكن لك الاحترام والتقدير أيضا، فقد تابعتك وأنت تزور المحافظات المختلفة وتخاطب العراقيين بلهجتك البغدادية المُحبّبة في مناسبات عدة، مباشرة أو عبر منصات التواصل الاجتماعي، مهنئا أو مساندا أو مواسيا.
أشهد لك سعادة السفير إيواي بأنك قد تمكنت من أن تصنع لنفسك ولليابان قبولا وشعبية بين عراقيي الداخل والخارج الذين ثمّنوا سعيك الحثيث لمد جسور التواصل بينهم وبين أمتك في وقت يؤثر فيه معظم رؤساء وأعضاء البعثات الدبلوماسية الأخرى السلامة والانزواء في حصونهم المنيعة في المنطقة الخضراء … أقدّر لك ذلك وأشكرك عليه، لكنني أود هنا أن أشاركك بعض خواطري عن استضافتك الأخيرة لطلبة قسم اللغة اليايانية في كلية الآداب على مائدة افطار رمضانية في مقر اقامتك في بغداد، والتي رحت أتأمل صورها على شاشة جوالي بمشاعر مختلطة مضطربة.
لا أخفيك سرا يا سعادة السفير أني لم أفهم تماما الدافع وراء ارتدائك زيا “تنكريا” في مناسبة كان يفترض بها أن تكون لقاءا وديا يجمع بينك (كممثل لليابان) والطلبة العراقيين الذين اختاروا تعلّم لغة بلدك … تساءلت مع نفسي: ألم يكن من اللائق أكثر أن يصل المدعوون من الشبان والشابات ليجدوا مضيفهم الكريم مرتديا للباس معاصر يشبه الملابس التي كانوا يرتدونها، عوضا عن الدشداشة (الجلباب) والعرقجين (الطاقية) التي استقبلتهم بها؟
عذرا سعادة السفير، فالمشهد بدا لي مسرحيا بعض الشيء، بل أجرؤ أن أقول كاريكاتيريا أيضا، مذكرا بهوس الاستشراق الذي ضرب أوروبا في العصور الغابرة ورموزه الشهيرة (سيئة الصيت في كثير من الأحيان) مثل غيرترود بل وتي اي لورنس المعروف بلورنس العرب وصورهما الشائعة وهما متلفّعان بثياب أهل الصحراء … رجعت الذاكرة بي الى سنوات حياتي في بغداد التي شهدت في الثمانينات والتسعينات نشاطا مميزا لمؤسسات مثل “المعهد البريطاني” و”المركز الثقافي الفرنسي” واستضافتهما لمختلف الفعاليات الثقافية والفنية من ندوات وحفلات موسيقية وعروض مسرحية وسينمائية وكذلك تنظيمهما رحلات للمتميزين من الطلبة العراقيين الدارسين للغتين الى بريطانيا وفرنسا للتعرف عن قرب على معالم البلدين وثقافتي شعبيهما.
أوردت المثالين السابقين لأني كنت حاضرا في العديد من تلك العروض والمعارض، لكنني لا أذكر رؤية أيّ من رعاتها الأجانب وهم يرتدون الزي الذي ظهرت سعادتك به، ولم نكن نرى في مظهرهم المعاصر الشبيه بمظهرنا اساءة منهم بحقنا أو قلة اهتمام أو حفاوة بتقاليدنا … الأمر الآخر الذي أثار استغرابي هو منظر الطعام المقدّم للمدعوين على مفرش مُدّ على الأرض ووضعية جلوسهم غير المريحة حوله وارتباكهم الظاهر جليا في الصور المنشورة والمتداولة عن الحدث.
مرة أخرى، تساءلت مع نفسي: لماذا؟ من أخبر سعادة السفير أن طلبة الجامعات في العاصمة العراقية يتناولون طعامهم جلوسا على الأرض؟ وهل غابت عنه فطنة ادراك أن طقوس المائدة وقواعدها تختلف في بغداد عن تلك التي ربما كان قد لحظها خلال زياراته للريف أو البادية؟ ما الداعي الى احراج المدعوين، أيا تكن خلفياتهم الاجتماعية، وتحويلهم من ضيوف محتفى بهم الى مؤدّين في عرض اعلامي مفتقر الى المنطق؟ ألا يفترض بالدبلوماسية أن تكون فن اللقاء والتواصل مع الآخر في منتصف الطريق؟ أليس من أولى مبادئها البعد عن المغالاة وتجنّب كل ما من شأنه أن يثير الحساسيات لدى أبناء البلد المضيف؟
لا أفترض سوء النية لديك وقد يكون من المجحف تحميلك المسؤولية كاملة عما حدث، فأنا أدرك بأنك محاط بكادر عراقي من المستشارين والعاملين في السفارة، ولعل أحدهم (أو احداهن؟) قد أوحى اليك ببعض ملامح العرض المؤسف … لذلك، فاسمح لي سعادة السفير إيواي أن أوضح لك ما قد يكون خفي عنك بخصوص تبعية أولئك الأعوان والقليل أيضا عن تأريخ الدبلوماسية العراقية خلال العقود القليلة الماضية، عسى أن يكون في ما سأورده فائدة لمن سيخلفك في منصبك، أو حتى باقي أعضاء السفارات والقنصليات العاملة في العراق.
دعني أعود بسعادتك الى نهايات الستينات من القرن الماضي عندما حمل انقلاب أسود حزب البعث العربي الاشتراكي الى قمة السلطة في العراق، تزامن ذلك مع حملة منظمة شنها قادته (وعلى رأسهم النائب الشاب حينها، الطموح الجامح والدموي معا، صدام التكريتي) لغربلة دوائر وزارة الخارجية التي كان مشهودا لها حتى ذلك التأريخ بالكفاءة والريادة في وسطها العربي والاقليمي، بل والعالمي أيضا … تمت الاطاحة بمعظم الرموز المشرّفة من المناصب المهمة والزج بها في غياهب السجون أو تصفيتها جسديا، أو في أفضل الأحوال احالتها على التقاعد،كي يحل محلها طاقم جديد يمكن اختصار مؤهلاته بالحس الأمني المتحفّز والجهوزية لارتكاب أية جريمة بحق من يجرؤ على معارضة أو حتى ازعاج سادة البلاد الجدد.
سفاراتنا وقنصلياتنا وملحقياتنا الثقافية والتجارية والعسكرية المنتشرة في أنحاء العالم لم تعد منابر وواجهات مضيئة لتمثيل العراق وشعبه، بل صارت أوكار مخابرات وتجسّس على العراقيين المقيمين و الزائرين لتلك البلدان، وبوسع سعادتك مراجعة الصحف الأجنبية والعربية لترى بنفسك نماذج عدة لمحاولات الاغتيال التي تم الاعداد لها وتنفيذها من قبل رجال الدبلوماسية البعثية وقتذاك … بحلول الألفية الثانية، كان آخر من بقي على قيد الحياة من الكوادر المؤهلة في وزارة الخارجية قد غادرها طلبا للجوء في هذه الدولة أو تلك، أو أطيح به من منصبه كي يحل محله رجال من أقارب الرئيس، كث الشوارب، بالكاد يجيدون القراءة والكتابة ويفتقدون لأبسط مفردات اللياقة في السلوك والمظهر والحديث، جلّ همهم جني المكاسب المادية وعبّ الخمور الفاخرة حد الثمالة، فيما انهمكت زوجاتهم في شراء وتكديس المجوهرات الضخمة والملابس البرّاقة الغالية بلا ذوق أو تنسيق سليم كي يختلن بها أمام الضيوف وعدسات المصورين في الحفلات والمناسبات الرسمية التي كن يقمنها أو يدعين اليها، لكن الانحطاط لم يكن حصرا على بعثاتنا الدبلوماسية في الخارج، فكافة دوائر وزارة الخارجية وكل من كان يسمح له أو لها بالعمل أو الاختلاط مع الأجانب المقيمين في العراق أو الزائرين له كانوا عيونا وآذانا للأجهزة الأمنية وعلى أهبة الاستعداد لتنفيذ شتى المهام التي قد توكل اليهم، والتي كان الكثير منها، للأسف، قذرا!
قد تتساءل سعادة السفير أنت وسواك من الأجانب عن السبب في كبوة العراق التي طالت وعن تفشي العنف والطائفية وغياب الخدمات واستشراء الفساد كالنار في الهشيم … الاجابة الوحيدة عندي هي أننا نشهد موسم حصاد محصول سام، دُسّت بذوره عن عمد في تربة بلدنا خلال العقود السابقة فأفسدتها لأجيال ومواسم عديدة قادمة. لذلك، فكوادر وزارة الخارجية اليوم بالكاد تختلف عن نظيراتها بالأمس. ربما الولاءات هي كل ما تغير، فحل محل الولاء لعشيرة الرئيس السابق ومن دار في دوائرها، ولاءات جديدة لهذا أو ذاك من الأحزاب الطائفية أو العرقية التي تتسيّد المشهد السياسي المعاصر، لكن شراهة الحصول على أكبر حصة من الكعكة هي ذاتها وأكثر، فالقادمون الجدد يتضوّرون جوعا ولم تصبهم التخمة بعد كسابقيهم، أما ضحالة التعليم والثقافة وهمجية السلوك الشخصي وانعدام الاخلاص والايمان بقيم المواطنة والخدمة، فلا تزال جميعها كما كانت، بل ازدادت سوءا.
قد يزعم البعض بأني كتبت رسالتي هذه دفاعا عن قيم البرجوازية الغابرة وتشبثا بمظاهر الحياة في الغرب، أو ربما تبرؤا من أصولي العربية المشرقية. لا هذا ولا ذاك! فأنا ابن الطبقة البغدادية المتوسطة، أبي كان طبيبا وأمي مدرسة تأريخ، أما أجدادي فكانوا خليطا من التجار والمزارعين، ولعائلتي فروع وامتدادات وأصدقاء في مدن الشتات التي لجأنا اليها مضطرين، لا مختارين، عندما استحال العيش علينا في وطننا الأم … الكثير منا يا سعادة السفير استغربوا واستنكروا اتخاذك من فجاجة المحيطين بك نموذجا قمت بتعميمه على شعب بأكمله في استعراض ساذج واستسهال في الطرح لم يكن لائقا بسعادتك وكنت أتمنى ألا يصدر عنك.