18 ديسمبر، 2024 6:04 م

خباز ذاع صيته في الحي. ليس متقدماً في العمر، لكنه كما يبدو يتقن المهنة جيداً. خبزه من النوع المميز ما جعله مقصد الأخرين من السّكان حتى من الأحياء الأخرى المجاورة والبعيدة. الناس يسمون خبزه بـ(الحار والمكسب) نسبة إلى جمال منظر الرغيف الخارج من تنوره الحامي.
فعلاً هناك سر ما يختفي وراء خبز هذا الرجل. كل من يشتري منه الخبز يحس بالفارق الذي بين خبزه وخبز الأفران الأخرى. الجميع ينسب هذا الطعم المميز والخبز الفريد إلى خبرته الطويلة في العمل رغم إنه هناك من هو أقدم منه بكثير. إنه شاطر وقد اتقن سر هذه المهنة مبكراً وهو اليوم يرتزق أكثر من الأخرين. إنه يعرف جيداً أسرار المهنة وبالطبع لا يكشف لأحد سر هذه المهنة كما هو الحال أصحاب المهن جميعاً.
منذ سنين وأنا أشتري الخبز منه حتى أصبحت بيننا صداقة من نوع خاص. فإذا تأخرت في التردد عليه يوماً أو يومياً يسأل عني من الأخرين وأحياناً يتصل بي للسؤال.
مشاغل الحياة والانشغالات الكثيرة تحول بيني وبين التردد إلى هذا المخبز أحياناً. حيث اضطر إلى شراء الخبز من مخبز آخر وأنا في طريق عودتي إلى البيت لكسب الوقت. أهل بيتي جميعاً يعرفون أن الخبز من مخبز آخر وليس من مخبز حينا. يسارعون بالإعراب عن إستيائهم لشرائي الخبز من مصدر آخر فهم تعودوا للطعم الفريد والخبز (الحار والمكسب).
الطحين هو نفس الطحين التركي الذي يخبز في الأفران الأخرى والخميرة المستعملة هي نفسها. الماء نفس الماء والعجانة هي نفسها والنار هي النار الموقدة بالنفط الأسود أو الغاز. إذن ما هو سر الخبز المميز هذا؟!
سألته ذات مرة وأجابني الخباز هذا بأن النيّات الصّافية لها دورها في إخراج الخبز المميز وقال انه يعمل بعرق جبينه. الحقيقة لم أقتنع كثيراً بهذه الإجابة فليس من المعقول أن تكون النيّات والقلوب الصافية لها دور يذكر في تغيير الطعم واللذة.
ذات يوم من أيام شهر آب اللّهاب وأنا واقف بالقرب من الخباز منتظراً دوري وهو يخبز. حرارة الجو تقارب الخمسين درجة مئوية بل وتفوق، مضافاً إليها الحرارة المتصاعدة من النيران المحترقة داخل الأفران الثلاثة في المخبز. الخباز يشرب الماء باستمرار ويقدم لي شربة منه لكن هذا الماء كالمهل بخاره يشوي الوجوه وشربته تحرق الجوف ولا يغني عن عطش. الخباز يشرب الماء ويصب العرق بغزارة وكأن في جسده خرطوم ماء مثقوب. ليس له بد في هذه الأجواء إلاّ أن يشرب الكثير من الماء وإلاً فإنه يصاب بالجفاف ولا يتمكن من العيش.
الخباز يعمل ويمسح عرق جبينه المنصب على العجينة مباشرة بديه المجردتين. ثم يعود إلى كرات العجينة يعجنها ويفتحها بكلتا راحتيه المبتلتين بعرق جبينه ومن ثم يلصقها بجدار التنور الطيني. الخباز يعيد الكرّة من جديد، حيث العرق المنصب من جسده على العجينة مباشرة ومن ثم مسح العرق والعودة إلى العجينة تارة أخرى.
يبدو أنني اكتشفت سر الطعم الجميل واللّذة المميزة التي تميز بها خبز هذا الخباز عن أقرانه. من الواضح جلياً أن الخبز (الحار والمكسب) ليس فقط الطحين التركي والخميرة بل فيه الكثير من عرق جبين هذا الخباز كما قال.

هكذا فان لسر المهنة دوراً كبيراً في اخراج الأمور وصياغة حالتها النهائية. وكم لتراً يا ترى من عرق هذا الخباز يسري في شراييننا ونحن نصرّ في أكل ما يخبز؟!
كم من الأعمال التي صرفت على رؤوسنا باسم النيّات الصّافية وكان الخبث مختفي تحت ثناياه.