18 ديسمبر، 2024 6:41 م

سر حماس لندن للحرب في أوكرانيا (2)

سر حماس لندن للحرب في أوكرانيا (2)

كان تشيرشل قبل الاميركي روزفلت أول من أطلق العنان لرياح الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفيتي في خطابه الشهير أمام مجلس العموم البريطاني، متهما موسكو بمحاولة الاستيلاء على الدول و نشر الشيوعيه عبر منظمة
(كومنفورم) للتنسيق بين الأحزاب الشيوعية في العالم، وقاد الرئيس الأميركي ترومان حملة عالمية لمكافحة الشيوعية؛ أنفقت عليها الولايات المتحدة ملايين الدولارات على الجبهات الإعلامية والسياسية والعسكرية.
وفي فترات الانفراج بين الولايات المتحدة الاميركية والإتحاد السوفيتي؛ حافظت لندن على مواقف متشددة مع موسكو امتدادا للمخاوف البريطانية القديمة ، من التوسع الروسي بغض النظر عن قرابة الدم بين الأسرة المالكة في باكنغهام وال رومانوف اخر القياصرة الروس الذين أطيح بهم عام 1917 وقتلوا ببشاعة، دون ان يهب الاخوال الانكليز لنجدتهم.

لم تجد سياسة الوفاق التي اختطتها القيادة السوفيتية بزعامة بريجنيف أصداء قوية في 10 داون ستريت، خلافا للبيت الأبيض.
وكانت لندن أول عاصمة قرار دولي يزورها عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي ميخائيل غورباتشوف، بعد صعوده الى قيادة الحزب،متميزا بحيوية الشباب وسط رهط من عجائز الحزب،بامينه العام قسطنطين تشيرنينكو الذي أختار غورباتشوف مبعوثا الى السيدة الحديد وحضي باعجاب مارغريت تاتشر ، فاطلقت تصريحها الشهير” مع ميخائيل يمكن التفاهم”.
لاح ان رئيسة الوزراء البريطانية، قامت بحملة علاقات عامة في أروقة البيت الأبيض تروج للزعيم السوفيتي القادم المرن.
وشهدت موسكو منذ انفراط عقد الاتحاد السوفيتي؛ نشاطا بريطانيا يوازي وفي بعض الاحيان يتفوق على الحركة الأميركية داخل أروقة الكرملين، وسارع الإنكليز لفتح مراكز ثقافية في موسكو وبطرسبورغ وعدد من مدن روسيا مترامية الأطراف.
تحولت لندن الى كعبة الاولغارشيين من روسيا، وحصلوا بقرارات من صاحبة الجلالة على الجنسية البريطانية.
باعت بريطانيا ليس فقط نواد رياضية لأثرياء روسيا، بل و بعض كبريات الصحف والقنوات التلفزيونية ، وفتحت البنوك البريطانية خزاناتها للاموال المنهوبة من روسيا، ووجد اللصوص في حكومة جلالة الملكة حضنا دافئا على الدوام.
صار توني بلير ” جرو بوش” ضيفا شبه دائم في موسكو. يروج لاكاذيب البيت الأبيض حول أمتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل وبعد غزو التحالف الانكلواميركي العراق واحتلاله ،حصلت الشركات البريطانية على حصة الاسد من العقود في العراق المحتل، واستعادت شركة لوك أويل الروسية عقدا ضخما لحقول غرب القرنة، كانت بغداد سحبته من الشركة إحتجاجا على لقاء مبعوثين من موسكو في لندن مع رئيس حركة الوفاق العراقية أياد علاوي المتهم بالعمالة .
والى مطلع الألفية الثالثة سارت العلاقات الروسية البريطانية على طريق الشراكة وصارت الاستثمارات البريطانية في روسيا البقرة الحلوب تدر على الاقتصاد البريطاني المليارات الى ان تعرضت الى هزة عنيفة حين لجآ أحد أخطر عرّابي الخصخصة ونهب ممتلكات الدولة السوفيتية، بوريس بيريزوفيسكي، الى عاصمة الضباب بعد ان شغل حقبة يلتسين منصب سكرتير مجلس الامن الروسي وكان يوصف بانه
” صانع الرؤوساء “.
قبل وفاتة الغامضة عام 2013، قاد بيريزوفيسكي حامل الجنسيات المزدوجة، نشاطا محموما من لندن ضد السلطات الروسية الى حد إتهامها بتفجير مبان سكنية في موسكو والصاقها بمواطنين من جمهورية الشيشان لتبرير الحملة العسكرية على الانفصاليين في ما بات يعرف (حرب الشيشان الثانية 1999-2009).
وتدهورت العلاقات الروسية البريطانية الى شبه قطيعة اثر وفاة العميل المنشق عن الاستخبارات السوفيتية الكسندر ليتفينينكو ، الذي موّل بيريزوفيسكي نشاطاته المعادية في بريطانيا ، واتهمت لندن الأجهزة الروسية بتسميمه؛بعد صدور مذاكرات يزعم فيها ان انفجارات موسكو عشية الحرب ضد انفصالي الشيشان تمت بعلم بوتين.
ثم توالت فضائح التجسس بين البلدين، كان اخرها اتهام السلطات البريطانية لعميلين روسيين دخلا بريطانيا باسماء مستعارة ،حاولا اغتيال الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكيريبال وابنته.
وفي ضوء مسلسل الفضائح والاتهامات، تقلص الحضور الدبلوماسي المتبادل بين موسكو ولندن الى أدنى المستويات.
في زيارة تمت بعد انقطاع في الاتصالات زاد عن العامين؛ تحدثت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس بقساوة تخلو من الدبلوماسية عن ان لندن ستقف بقوة ضد روسيا اذا” قررت الاعتداء على أوكرانيا”.
كان ذلك قبل بدء العملية العسكرية باسبوعين تقريبا.
ولم يقصر نظيرها الروسي سيرغي لافروف، فصاع لها الصاع صاعين .
وما ان بدات روسيا عمليتها العسكرية، حتى كان صوت بوريس جونسون الأكثر صخبا بين الأوربيين.
فقد سارع الى الاتصال بزيلينيسكي، وعقد اتفاقا عسكريا وسياسيا ثلاثيا يضم بريطانيا وبولندا وأوكرانيا بما يشبه ناتو مصغر بعد ان اعلنت واشنطن زعيمة حلف شمال الاطلسي ان الجمهورية السوفيتية السابقة لن تنضم في المديات القريبة والمتوسطة الى الحلف مهما الحت كييف في الطلب.
ووجد” ميني ناتو” ترحيبا من واشنطن، وأبدى الانكليز كرما غير معهود وسخاء غريبا مع أوكرانيا وصل الى حد فتح حدود المملكة أمام تدفق اللاجئيين الاوكرانيين، فيما تغلقها بوجه كل عباد الله الا لصوص العراق ومن لف لفهم.

اذا، لماذا هذا الحماس منقطع النظير لدعم أوكرانيا التي تزيد مساحتها مرة ونصف عن مساحة الجزر البريطانية؟

تدرك المانيا ومثلها فرنسا ان انتصارًا اوكرانيا على روسيا؛ يعني قيام دولة منافسة قوية وسط اوروبا،الثانية من حيث المساحة بعد روسيا ، بثروات طبيعية زاخرة ، ومعادن نادرة اراضيها الزراعية الشاسعة خصبة ومثمرة، الامر الذي يعني بداية النهاية للدور القيادي لكل من برلين وباريس في القارة العجوز التي قررت لندن، التغريد لها عن بعد بعد عقود من الشراكات على مختلف الأصعدة.
لندن، بدهاء انكليزي تقليدي، تسعى لاحتواء أوكرانيا الضخمة،في حلف يضم كل أعداء روسيا القدامى والجدد وفي المقدمة بولندا التي صارت راس جسر لحلف الناتو، تنتقل منها الأسلحة الفتاكة الى أوكرانيا وبتنسيق استخباري شبه معلن مع لندن التي تحتل تقارير استخباراتها عن سير العمليات العسكرية الخبر الاول في نشرات الأخبار العالمية.
يندفع البريطانيون حيثما يجدون المصلحة، وليس عبثا ان مقولة السياسي الإنكليزي هنري جون تيمبل فيسكونت بالميرستون (1784-1865) المنسوبة عربيا بالخطأ الى تشيرشيل ” لا توجد عداوات دائمة ولا صداقات دائمة بل توجد مصالح دائمة” هي دليل عمل البراغماتية السياسية في العالم . سياسة يتقنها (أبو ناجي)* اكثر من غيره، وغالبا ما يختفي في الدهاليز على طريقة شارلوك هولمز .
وصف كارل ماركس رئيس الوزراء البريطاني الخامس والثلاثين في تأريخ بريطانيا الفكتورية وقبلها وزيرا للدفاع ومن ثم الخارجية؛؛
: “كونه محافظًا بالولادة ؛ ومع ذلك فقد تمكن من صناعة شبكة اكاذيب تشكل جوهر النزعة اليمينية في إدارة الشؤون الخارجية. إنه يعرف تمامًا كيف يجمع بين العبارات الديموقراطية ووجهات النظر الأوليغارشية ، يعرف كيف يخفي سياسة السلام التجاري للبرجوازية وراء اللغة المتغطرسة للرجل الإنجليزي الأرستقراطي في العصور القديمة ؛ يعرف كيف يظهر مهاجمًا عندما يكون في الحقيقة مدافعا ، انه يتمسكن كي يتمكن ؛ إنه يعرف كيف يخلق عدوًا وهميًا بمهارة كي يدفع حليفه الى اليأس. يعرف كيف يأخذ جانب الأقوى ضد الأضعف في اللحظة الحاسمة، يجيد فن الهروب من العدو ،ثم يسطر جملا جذابة بصوت عال وجريء”.
صاغ رئيس الوزراء البريطاني في العصر الذهبي الفيكتوري، بالميرستون ( دبلوماسية مدفع الاسطول)، قاوم الانتفاضات الفلاحية في دول الجوار وتحالف مع تركيا ضد روسيا في حرب القرم معتبرا استيلاء القيصر الروسي على شبه الجزيرة بداية الطريق نحو إحتلال روسيا للهند .
أدرك بالميرستون الذي بدأ حياته مصمم أزياء وممثلا كوميديا في مقاهي لندن ،الدور المفصلي الجيوسياسي لتركيا، وتعامل وفق مبدأ المصالح الدائمة مع ” المسألة الشرقية” وخلاصتها تقاسم ممتلكات الدولة العثمانية مستفيدا من ( الرجل المريض) في صياغة تحالفات متغيرة وفق حاجة التاج البريطاني وبقي في سدة الحكم حتى الممات عن 81 عاما في مكتبه، وبذلك كان آخر رئيس وزراء بريطاني غيبه الموت عن الحكم وليس البرلمان .
تملك لندن إرثا ضخما من التلاعب بمصائر الدول، صغيرها وكبيرها؛ خدمة لمصالحها الحيوية، وتفضل العمل في الظلام على ان تظهر نواياها الى العلن.
تدرك بريطانيا ان قيام روسيا قوية ذات طموحات جيوسياسية خارج الحدود،يعني اضمحلال الدور البريطاني في اوروبا أولا وفي العالم تبعا . ولا يوجد اليوم أفضل من أوكرانيا لاستنزاف روسيا ولو على حساب خسائر إقتصادية غير مسبوقة، وازمات متوقع ان تهز الشارع البريطاني رغم الحماس الشعبي العارم للمسألة الاوكرانية.
“ميني ناتو “واحياء العداوات التاريخية البولندية لروسيا على مدى قرون، واحقاد دول البلطيق المتراكمة على موسكو وتطلع دول اوروبا الشرقية للاندماج في ” الغرب المتحضر” ؛؛ تشكل في مجملها ( دبلوماسية مدفع الأسطول) الموجهة نحو روسيا.

يتبع