18 ديسمبر، 2024 7:21 م

سرقوا ذكرياتنا..سرقوا الخبز والماء ..والمستقبل..

سرقوا ذكرياتنا..سرقوا الخبز والماء ..والمستقبل..

قبل ايام كنت في زيارة الى مناطق جنوب بغداد ..مناطق هور رجب وعرب جبور.. والبوعيثة.. والسدة.. على شواطئ دجلة..
قررت في احد ( الجمع ) ان اخرج في هذه الزيارة .. لاستعيد بعض الذكريات الجميلة قبل عقود من الزمن ..وكما كنا نفعل..حينما كنا طلاباً في الثانوية والمتوسطة.. نخرج مجموعة من الشباب ..من حي الدورة والاثوريين.. .. يقودنا الصديق العزيز ؛ياسين العيثاوي ( حاليا استاذ طب الاسرة في كلية طب الانبار ) لان اهله وعشيرته الكريمة يسكنون هذه المناطق ويتقاسموها مع عشيرة الجبور الاصيلة ..وهو الدليل والمضيّف ..لنسبح في دجلة الخير.. في ايام الصيف ..ونقطعها سباحةً .. الى جزيرة سعيدة..المقابلة..وبعدها نهجع في الظهيرة.. لتناول وجبة الغداء من مايتوفر من الروب ( الخاثر) اللذيذ وخبز التنور الحار ..وتشريب دجاج( العرب) ..والرطب وكل شيئ طازج ..من المزارع..الى ان يحين العصر..نذهب الى البساتين خلف السدة، ثم نسيح ونمرح في فيافي بساتين السدة وغابات النخيل والحمضيات التي تتهادى خلف جذوع النخيل الباسقات.. وفي ظلالها يتدلى عثوق البرحي والزهدي والبربن والخستاوي ..لتعانق البرتقال والنارنج والتين والزيتون ..والمزارع الخضراء وما تحويه من الرقي والشمّام .. ونشارك احيانا الاهالي وهم ينتشرون في البساتين والمزارع لجني الفاكهة والخضرة..ونسمع هديل الحمام ..وخرير الماء ..وهدير مضخات الماء التي تسحبه من دجلة وتلقي به في احواض .. متناثرا كل اللؤلؤ المنثور .. يبعث عبقاً ونسيماً بارداً ينعش الارواح .. ثم ينسال يجري في السواقي ..لري البساتين والمزارع ..
كانت اياما واوقاتاً سحرية في صيافي السبعينات والثمانينات لاتنسى..
كل هذا كان يطوف في مخيلتي وانا ذاهب مصطحبا معي صديقاً ..دليلاً من المنطقة ..لاطلع على شواطئ دجلة ..لعلي ارى ما طاف في الذاكرة او استعيد بعضاً من تلك الذكريات الجميلات ..واروح عن النفس ..وسط هذا الهم المتراكم.. وعذابات الوطن المبتلى بشلة ، لاتراعي ذمة ولا تخشى سلطان..
ولاتدرك ماهي مسؤولية قيادة الاوطان.. وايّ اوطان؟؟؟ انها بلاد الرافدين .. اوطان الانبياء والشعراء ..ودجلة والفرات والنخيل الباسقات ..
كانت الذكريات تحف ذاكرتي ..طيف بساتين النخيل وغاباته
..وانا اتذكر؛ بيت السياب ..

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،

.. واقتربت من السدة.. كل شيئ مختلف .. بناء مبعثر.. احياء عشوائية.. قصور تحيطها اسوار كئيبة وحرس وحراس ..شاليهات واقطاعيات .. ضجيج ..محلات وبنچرجية وحدادين ..وسكلاّات ..وكل شيئ .. الا غابات السحر..رايتها مذبوحة او مغادرة او خاوية ..اشاهد بساتين النخيل فد جرفت ..وفيها ايادي العابثين قد سعّرت ..وحركة اهلها الطيبين اما غُيّبت او قُيّدتْ.. لاتملك قراراً .. او أُغريتْ بأموال (السحت) ..لتبيع وتبيع.. دخل ناس جدد ..نافذين .. بغطاء (مستثمرين) ..او مستهترين ..يستولون على الارض.. والبساتين ..وكل ماملكت ايمانهم.. الا من الشرف والغيرة على هذا البلد ومقدراته..
.. لقد رايت العجب العجاب ..وسمعت من قصص ..يشيب لها الراس وتحتار لها الالباب..مما يجري لنهب تلك الاراضي والبساتين وبيعها اوصالا ..وحارات ..لمن هب ودب من اصحاب الاموال والكروش .. واهل الجكسارات والتاهوات البيضاء والسوداء المظللة..
هؤلاء (النافذين) .. يشترون الاراضي الزراعية والبساتين ويحولوها الى ساحات جرداء.. ويخطون المدن والاحياء .. ويبيعوها قطعا وامتاراً .. دون ان نرى موافقات قانونية..ولا اي تدخل لدولة ..او امانة.. او اي اجراء حسيب..(الاهالي يقولون..)
رايت بعيني.. وياليتني لم ارى.. رايت بيوت وقطع اراضي مسيجة على شط دجلة الذبيحة.. كل قطعة ارض مساحتها ١ دونم..تباع بمليار .. يزيدوها دونم اخر مغتصب.. من شاظئ دجلة.. نعم مغتصب.. يقومون برمي الانقاض والاتربة، لدفن نهر دجلة لكي يزيدوا مساحة الدونم الى دونمين او اكثر.. ويمدوا لها ( مسناية )في وسط دجلة ويصبح سعرها ٣ مليار..
وهكذا كاد النهر يختفي ويضيق.. ولسوف يختفي..ولا من محاسب ولارقيب!!
بساتين النخيل تجرف وكما روى لي اهالي المنطقة.. ان فريق او افراد مجهولين مستأجرين ..يقومون ( خفية )بابادة النخيل باستخدام الدريل.. وزرق مادة كيمياوية داخل لبة النخلة ( الجمار) لكي تجف وتصبح جذوع خاوية ليبرر جرفها وتحويلها الى ارض جرداء وبيعها قطع للسكن دون موافقات ودون تخطيط مدن او خدمات …
الاستهتار بمقدرات ومستقبل هذا البلد بلغ حداً لايطاق.. بل لايمكن ان يتصوره عاقل..