18 ديسمبر، 2024 9:55 م

سرقة القَرْن وآليّات مُحاربة الفساد الماليّ في العراق!

سرقة القَرْن وآليّات مُحاربة الفساد الماليّ في العراق!

يُعدّ الفساد الماليّ في العراق وَحْشا قاتلا مُتعدّد الرؤوس، وجذوره بعيدة في باطن أكثر مؤسّسات الدولة، ولا يُمكن اقتلاع أصوله المتينة العميقة بسهولة لأنّه جزء من بناء المنظومات المدنيّة والعسكريّة.

وهذه الحقائق ليست سرّا بل مَعلومة للحكومات العراقيّة ولواشنطن، اللاعب الأبرز بالعراق، ولمندوبة الأمم المتّحدة جينين بلاسخارت التي أكّدت نهاية تشرين الأوّل/ أكتوبر 2022 أنّ “الفساد سِمة أساسيّة بالاقتصاد العراقيّ، وجزء من المعاملات اليوميّة”.
ويحتّل العراق المرتبة (157) عالميّا مِن بين (180) دولة ضمن مؤشّرات الفساد لمنظّمة الشفافيّة الدوليّة للعام 2021، ولكنّني أُشكّك في هذا التقييم لأنّ سرطان الفساد الماليّ أكل، وما يزال، أكثر من 30 بالمئة من موازنات العراق الانفجاريّة، ولهذا أتصوّر بأنّ العراق ضمن الدول الخمس الأولى في هذا المضمار المُشين!
وسبق لعضو لجنة مكافحة الفساد السابق، سعيد ياسين، أن كشف منتصف أيلول/ سبتمبر 2021 أنّ “حجم أموال الفساد يُقدّر بحدود (360) مليار دولار”، فيما ترى منظّمات غير رسميّة بأنّ الأموال المنهوبة بالفساد أكثر من (500) مليار دولار!
وفي ظلّ هذا الواقع المليء بالسرقات الغامضة والعصابات المُنظّمة، وخلال مسرحيّة هَزْيلة الإخراج عُرِضت الأحد الماضي أطلّ رئيس حكومة بغداد محمد شياع السوداني عبر التلفزيون الرسميّ وعلى يمينه وشماله أكثر من “(182) مليار دينار عراقيّ، (121.3) مليون دولار تقريبا”، وليُعلن استعادة بعض الأموال المسروقة في عمليّة سرقة أموال الأمانات الضريبيّة والتي سُمّيت بـ(سرقة القَرْن)، وكأنّها السرقة الأولى والوحيدة في العراق منذ قرْنين!
والأموال المُستردّة تُمثّل خمسة بالمئة فقط من أصل أموال (سرقة القَرْن)، والبالغة (3.754) ترليون دينار عراقيّ، “(2.6) مليار دولار”!
وينبغي القول بأنّ وَصف هذه السرقة بأنّها (سرقة القَرْن) قفز على الواقع الوخيم للفساد بالعراق، وصدقا فإنّ (سرقة القَرْن) تُمثّل صفقة أسبوع واحد فقط من جرائم النهب بعد العام 2005!
وبحسبة بسيطة نتأكّد بأنّ قيمة المبالغ المُسترجعة مقارنة بمجموع أموال العراق المنهوبة التي تتراوح ما بين (360 – 500) مليار دولار، تُعتبر بمثابة فتات مائدة (الأموال المسروقة) والتي ضاع أثرها داخل العراق وخارجه!
والمثير أنّ السوداني أعلن اتّفاقا للإفراج بكفالة عن المتّهم الأوّل في القضيّة، نور زهير، ليتسنى له بيع ممتلكاته واستعادة الأموال المسروقة!
ولا أحد يَعْرف مصير السارق بعدها!
وختم السوداني خطابه (الناريّ) بدعوة بقيّة المُتّهمين بالقضيّة لتسليم أنفسهم والمبالغ المسروقة، ووعدهم بالعمل ” مع القضاء لمساعدتهم بالإجراءات القضائيّة وفق ما يسمح به القانون”!
وقبل أيّام أكّد رئيس هيئة النزاهة حيدر حنون، أنّ أطرافاً مهمّة بحكومة مصطفى الكاظمي السابقة ساهمت بسرقة القَرْن!
وقبل يومين أعتقل هيثم الجبوري المستشار الماليّ للكاظمي، والذي اعتَرَف على شخصيّات سياسيّة وإعلاميّة كبيرة لم تُكشف حتّى الآن!
ولا نفهم لماذا يُعامل حيتان الفساد بالأحكام الناعمة، وبمبدأ استعادة الأموال، وربّما بمبدأ (عفا الله عمّا سلف)، بينما صغار الموظّفين، وحتّى الأطفال المُضطرّين للسرقة بسبب الفقر تَصْدر بحقّهم الأحكام القاسية لسرقات هامشيّة أو لمُخالفات ماليّة صغيرة، ومنهم طفل مدينة السماوة (12 عاما) الذي حُكِم عليه بالسجن لسنة كاملة، نهاية آب/ أغسطس 2016، لسرقته أربع علب مناديل ورقيّة لا تَعدل دولارا واحدا!
فأين عدالة القضاء؟
وهل هذه الإجراءات الحكوميّة غير المنطقيّة تأتي خوفا، أو حماية، من كشف الخطوط الحمراء الواقفة وراء (سرقة القَرْن)، أو من ردود فعلهم؟
وبصراحة هنالك عشرات المنافذ الأخرى للفساد، ومنها:
استغلال المناصب الكبرى وسطوتها للنهب ولحماية السُرّاق من الملاحقات القانونيّة، ولابتزاز الموظّفين والمواطنين.
مساومة المعتقلين وذويهم بحجّة مكافحة الإرهاب لتلقي الرشاوى من الأبرياء المطاردين.
التلاعب بواردات المنافذ الحدوديّة السائبة، وتهريب النفط.
اختلاس أموال (9000) آلاف مشروع وهميّ، وغالبيّتها لم ترَ النور، ومنها عقد الثلاثة آلاف مدرسة المبرم منذ العام 2010، ولم ينفّذ منها سِوَى (300) مدرسة.
المكاتب الاقتصاديّة التابعة لبعض فصائل الحشد الشعبيّ في الموصل وغيرها والتي تبتزّ المواطنين وتشاركهم بمصادر رزقهم.
سرقة رواتب أكثر من (300) ألف موظّف فضائيّ (وهميّ)، وما يزيد عن (250) ألف آخرين يتقاضون أكثر من راتبين حكوميّين، بحسب تصريحات عضو اللجنة الماليّة البرلمانيّة (جمال كوجر) بداية الأسبوع الحاليّ!
ضبابيّة عمل مزاد العُملة الصعبة في البنك المركزيّ العراقيّ.
هذه الأسباب وغيرها جعلت الفساد شبحا لا يُكافح بالخطابات الورديّة والقوانين الليّنة، وسبق لهيئة النزاهة العراقيّة كشفها بتقريرها للعام 2021 عن” تورط (11) ألف مسؤول بينهم (54) وزيّرا”!
ولكن مَنْ حاسب هؤلاء الكبار؟
العراق بحاجة لمكاتب رسميّة مدعومة عسكريّا وقانونيّا لفتح ملفّات الفساد، وبتر أجنحة وأذرع كبار الفاسدين، وسدّ ثغرات الفساد ومنابعه، والاستعانة بالخدمات الإلكترونيّة لتقليل الابتزاز، زيادة التعاون الدوليّ لملاحقة الفاسدين خارج العراق، وفقا لاتّفاقيات مكافحة الفساد الدوليّة والإقليميّة، وتوعية المواطنين بملكيّتهم للمال العامّ ليُساهموا بكشف الفاسدين!
حاربوا الفساد بالسياسات الواضحة، والقوّة العادلة، والتوزيع المُنْصِف للثروات وإلا ستستمرّ الفاجعة المُهلكة لثروات للوطن والناس!
dr_jasemj67@
نقلا عن صحيفة عربي 21