كثيرة هي القصص التي يمكن من خلالها تقديم نماذج لمدى خطورة وتغلغل سرطان الميليشيات في مفاصل المجتمع والدولة العراقية. إحدى هذه القصص – وهي قصة لا زالت ساخنة وفعّالة – تتعلق بإعلامي كان شاهداً على واحدة من عمليات الإجرام التي اضطلعت بها الميليشيات التابعة لحزب عمار الحكيم؛ حيث قامت هذه المليشيات، بالتعاون مع عناصر لبنانية تابعة لحزب حسن نصر الله، بخطف وتعذيب رجل من أهالي الحلة، ثم أُطلق سراحه بعد أن كشف ذووه الجهة الخاطفة وقدموا لأجهزة الأمن فلماً عن عملية الخطف صورته كاميرات مراقبة كانت منصوبة في واجهة بعض الأسواق القريبة. ما حدث بعد ذلك، إن ذوي المخطوف أقاموا دعوة في المحاكم، وقدموا ما لديهم من مستندات وصور، وأفلام، وشهود، وكانت قضيتهم محكمة من جميع الجهات، لم تترك خرماً يُفلت منه الجناة (طبعاً بحسب واقع الأمر، لا واقع الحال العراقي الرث)، ولكن حيث إن كل شيء في بابل مُسيطر عليه من قبل الأحزاب المافيوية الفاسدة – بدئاً من القضاء المسيس، والذي يعترف غير التابعين لأحزاب فيه بخشيتهم من بطش الميليشيات (ما حدث في البصرة بالأمس القريب، برهان ساطع)، مروراً بالحكومة المحلية الفاسدة (المُخطط الرئيس، والمتهم الأول لقضية الخطف شقيق أحد أعضاء مجلس المحافظة)، وليس انتهاءً بالقوى الأمنية التي تعد، في الحقيقة، غطاءً للميليشيات – فقد تم تسويف القضية، وخنقها. الأمر الذي ألجأ ذوي المخطوف إلى تحريك القضية عشائرياً، وهنا ثارت ثائرة العصابات المافيوية الإجرامية فقامت بخطف بعض شهود القضية وتلفيق تهم رخيصة لهم، من قبيل زرع عبوات وأحزمة ناسفة في أسطح المنازل والمحلات المملوكة لهم، ثم إلقاء القبض عليهم بذريعة الإرهاب!
اكتشف الإعلامي، المشار إليه، خيوط اللعبة القذرة، فعمد إلى سحب منشور كان قد كتبه – يشيد فيه بالإنجاز غير المسبوق لقوى الأمن وميليشيات الحشد التي تمكنت من اكتشاف متفجرات قبل استعمالها – واعتذر لقرائه، مع إشارات لبراءة الجهة المستهدفة. لم يرق هذا التصرف للميليشيات الإجرامية، فعمدوا إلى خطف الأخ الإعلامي، وساقوه لجهة مجهولة (عموماً هم يستخدمون مقر الحشد الشعبي كمعتقل، فهو مجهز بكل وسائل التعذيب، كما أخبر بعض المطلعين)، وأجبروه على ما يبدو على حذف منشور الاعتذار الذي اختفى من صفحته بعد اعتقاله! علماً إن الميليشيات الإجرامية لديها سابقة مع الأخ الإعلامي، فجروا إثرها قنبلة صوتية في منزله.
هذه واحدة من القصص الكثيرة، كما سف القول، تم اختيارها لكونها لا زالت طرية، وبرجاء أن نجد أذناً، في هذا الوطن الممتلئ بالأفواه. والقصة، غنية جداً بدلالاتها، ولعلها تلقي ضوءاً مهماً على حقيقة ما يجري في العراق من قتل وخطف وتفجيرات، ودور الأحزاب وميليشياتها في كل ذلك. أما الدلالة الأكبر للقصة فتتمثل في الصورة التي تُظهر العراقَ وكراً كبيراً تحكمه عصابات إجرامية، لا وازع لديها من دين، أو ضمير، أو إنسانية؛ وتتضاعف المأساة إذا ما تذكرنا أن هذه العصابات مغطاة من قبل المؤسسة الدينية التي تتبعها شرائح واسعة من الشعب اتباعاً أعمى. فنحن بإزاء مشهد تتراكم فيه الظلمات بعضها فوق بعض، ولا حول ولا قوة إلا بالله.