*يقول إمام المتقين “علي” عليه السلام: “النّاسُ صِنْفانِ إمّا أَخٌ لَكَ في الدِّيْنِ، أو نَظِيرٌ لَكَ في الخَلْقِ”
تعبر لنا مشاهد الحدث اللافت والتي شاهدناها مباشرة من على شاشات التلفزة والقنوات الإخبارية والتي تناقلتها معظم وسائل الإعلام “المرئية والمسموعة والمقروءة” الذي شهد يوم السبت 22 شباط في منطقة مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، حيث برز مشهد إنساني غير مسبوق و تحول الى حدث على نطاق واسع . فقد أقدم جندي إسرائيلي أسير، تم الإفراج عنه، على تقبيل رأس اثنين من عناصر كتائب القسام التابعين لحركة حماس، وذلك أثناء عملية تسليم الأسرى للصليب الأحمر الدولي. والأسرى المفرج عنهم، هم كل من :” إيليا كوهن، وعومر شيف توف، وعومر فنكرت ” الذين كانوا محاطين بحشد عسكري وشعبي مهيب، وفي لحظة فارقة من الزمن , بدت وكأنها تعكس عن حقيقة فلسفية انسانية مكبوتة وتعبر عن عمق الطبيعة البشرية التي تميل دومًا نحو المحبة والسلام والخير ، حتى في اقسى درجات خضم المواجهات المسلحة والصراعات واختلاف العقائد والانتماءات الدينية فيما بين البشر.
لم تكن هذه المشاهد العفوية مجرد سيناريوهات دعائية معدة مسبقًا، بل كانت في طبيعتها تجسيدًا حيًا للعلاقات الإنسانية التي تتجاوز جميع الحواجز من التفرقة الدينية والطائفية والسياسية. فقد أظهرت لغة الجسد وتعابير الفرح والارتياح على ارتسمت على وجوه الأسرى المفرج عنهم عن مدى الراحة النفسية التي شعروا بها، وكأنهم كانوا في ضيافة وزيارة أقارب لهم أو اشبه بحضورهم بحفلة عرس كانوا من ضمن أهم المدعوين لها وليسوا كانوا في ظل الأسر . هذا المشهد التعبيري المفعم بالعفوية لم ينجز من وراء كاميرات اعتى مخرجين افلام هوليوود ولكن كان يعكس بجلاء كيف يمكن للمعاملة الحسنة أن تؤثر إيجابيًا على النفس البشرية، حتى في أحلك الظروف والصعاب التي يمر بها الإنسان في فترة حرجة من حياته . وترسل هذه اللحظات الانسانية رسائل قوية وصريحة الى الجانب الأخر المعادي لوجود الفلسطينيين وهم متشبثين على أرضهم التاريخية كجذور الأشجار المعمرة والذي بدوره هذا الآخر يتحين الفرص لخلق العراقيل والمشاكل في سبيل أن يتم تهجيرهم الى غير رجعة من أرضهم التاريخية , وعلى الرغم من أمضى هؤلاء الأسرى أكثر من خمسة عشر شهرًا في الأسر، ومع ذلك ، بدا أن الجندي الإسرائيلي، من خلال تلك القبلة العفوية التلقائية التي طبعها على جبين مقاتلي القسام / وحدة الظل ، كأنما اراد ان يترجم من خلال هذه الحركة ويعبر عن مدى امتنانه وتقديره للمعاملة الإنسانية التي تلقاها خلال تلك الفترة الطويلة من الأسر .
إذ تكمن أهمية هذه اللحظة في رمزيتها وأبعادها الإنسانية العابرة للحدود، والتي يجب أن تُحفظ في إطارها الانساني الأصيل بعيدًا عن محاولات البعض لتسيسها أو جرّها إلى مستنقع الجدل والتكبر على الأخرين، كما نشاهده من خلال متابعتنا عن كثب لما كتب لغاية الآن في معظم مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي. إن قبلة الجبين هذه لم تكن مجرد ردة فعل عابرة، بل انعكاسًا لتكوين الشخصية الإنسانية التي تستطيع استيعاب الظروف المعقدة، بل وتحويلها إلى تعبير عن الامتنان والتفهم. ورغم القصف الإسرائيلي المستمر للمنطقة، والذي لم يأبه بمصير الأسرى حكومتهم – سواء عادوا أحياء أم جثثًا – فإن توفير مقومات الحياة من غذاء ودواء لهؤلاء الأسرى من قبل مقاتلي القسام يبرز تناقضًا صارخًا مع الصورة النمطية التي يحاول الإعلام المسيس المتشدد واليمين المتطرف الإسرائيلي الترويج له.
في سياق الأحداث المتسارعة التي تشهدها المنطقة، يبرز لنا تساؤل جوهري يستحق منا التأمل فيه وطرحه للرأي العام مفاده بأن: هل توقف القادة الإسرائيليون يومًا ليسألوا أنفسهم عن السبب الذي يجعل أسراهم المفرج عنهم من غزة يعودون دون أن يحملوا في قلوبهم حقدًا تجاه المقاومة الفلسطينية ؟ بل إنهم يظهرون حالة من الارتياح النفسي والجسدي والمعنوي ؟ في تناقض صارخ مع المشهد الأخر وما يعانيه الأسرى الفلسطينيون المفرج عنهم من سجون ومعتقلات إسرائيل، حيث نراهم يخرجون مثقلين بأمراض مزمنة وآثار تعذيب واضحة ونفسيتهم محطمة وكأنه منهاج دراسي يأخذونه هؤلاء الأسرى كل يوم من قبل سجانيهم. هذا التباين في المشهد ورمزية الصورتين يكشف لنا عن معركة أخلاقية تضع إسرائيل في مرتبة متدنية، تكاد تكون الأخيرة، في سلم الإنسانية.
وتبرز هذه الفجوة الأخلاقية بوضوح في حالة الأسير الروسي / الإسرائيلي “ألكسندر تروبنوف “، الذي كان يتمتع بتناول الموز – وهو سلعة نادرة وغالية الثمن في غزة المحاصرة – بل ويمارس صيد الأسماك على شاطئها قبل ساعات قليلة من الإفراج عنه. هذه الصورة تعكس مستوى المعاملة الإنسانية التي تلقاها، والتي تتجاوز الحدود الدينية والسياسية، مؤكدة أن الطبيعة البشرية تميل بفطرتها نحو الرحمة والتآخي حتى في خضم الصراع. في المقابل، يصر المسؤولون الإسرائيليون على نهج مغاير، حيث يعلنون بلا مواربة أنهم “لن يغفروا ولن ينسوا”، بل ويذهبون إلى حد طباعة هذه العبارة كشعار على ظهور الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم، في محاولة لترسيخ منطق القوة والانتقام.
لكن الرد جاء من عائلات الأسرى الإسرائيليين أنفسهم، التي أعلنت أنها لن تنسى ما تسببت به حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي من معاناة لأبنائها. فقد اتهموا الحكومة بتعمد وضع العراقيل أمام عمليات الإفراج عن الأسرى، خوفًا من أن يؤدي نجاح هذه العمليات إلى زعزعة استقرار كرسي رئاسة الوزراء. هذا الموقف يكشف عن تناقض داخلي عميق، حيث تتجلى الأولويات السياسية على حساب القيم الإنسانية، بينما تظل المعاملة الرحيمة من جانب المقاومة شاهدًا على أن الإنسان، في جوهره، يسعى للسلام والعيش الكريم، حتى في أقسى الظروف.
في هذا السياق، يتعين على الحكومة الإسرائيلية استثمار هذه اللفتة الإنسانية لتحسين صورتها، التي لطالما ارتبطت بممارسات التنكيل والتعذيب وسوء الأوضاع الصحية للأسرى الفلسطينيين في السجون والمعتقلات. كما ينبغي لعوائل الأسرى والمجتمع الإسرائيلي، بدعم من وسائل الإعلام المحايدة وغير المسيسة، أن يضغطوا على حكومتهم للاستفادة من هذه المشاهد في دفع عملية الإفراج عن بقية الأسرى قدمًا، والالتزام بتنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار المبرم بين حركة حماس وإسرائيل. ويشمل ذلك التقيد بالمراحل الثلاث للاتفاقية كما أُقرت، لضمان استمرار هذا الزخم الإنساني الذي يعكس جوهر الطبيعة البشرية في السعي نحو السلام والتآخي، بغض النظر عن الاختلافات العقائدية أو السياسية.