من بين ركام المطالب والدعوات التي ينادي بها شرفاء البلاد، تعلو بين الحين والآخر المطالبة بتفعيل قرارات جذب العراقيين المغتربين، ولاسيما أصحاب الكفاءات من الاختصاصات العلمية، ليأخذوا دورهم في بناء ما تهدم من صروح أساسية، ودعامات لاغنى عنها لمن يروم تطور البلاد. الأمر الذي يدخل السرور والطمأنينة في قلب المواطن، بعد أن تملكه اليأس من إيلاء الحكومة العلم والعلماء والأدب والأدباء وباقي أركان المجتمع من شرائحه المثقفة، ماتستحقه من منزلة ومكانة في المجتمع العراقي، لاسيما الجديد الذي فتح أبوابه على العالم عام 2003 بعد زوال كابوس النظام الدموي القمعي الذي كان جاثما على صدره مايربو على عقود ثلاث.
ولمن يقلب صفحات التأريخ العراقي، يدرك تماما أن العلوم وتطبيقاتها في المجالات كافة ليست بجديدة على العراق والعراقيين، فوادي الرافدين منذ فجر التاريخ، كان أرضا خصبة لكثير من الاختراعات والاكتشافات في مجالات الطب والفلك والفيزياء والكيمياء والرياضيات، ولم تبخل أمهات العراقيين بإنجاب علماء كانوا بشائر وطليعة كثير مما وصل اليه علماء الغرب اليوم، وتشهد لهم مآثرهم وآثارهم، أن السبق كان لهم في ميدان تخصصاتهم، فلقد شقوا الأساس، وبنوا نقاط الارتكاز، وشيدوا أعمدة البناء الحضاري، فأضحوا موارد ومنابع لامناص لعلماء الغرب والشرق من العودة الى منهلها والاغتراف منه.
أما في مجال الفنون، فان مخطوطات الأولين ورسومهم مازالت شاخصة في آثار أور وبابل ولكش، لتشهد انهم أول من ابتكر فن الزخرفة على مشيداتهم، كما انهم اول من اخترع البناء المقوس الذي أثبتوا متانته فيزياويا. ولهم قصب السبق في استغلال الآجر باستحداث فنون العمارة الجديدة، والوثوب به الى قمم شاهقة في معابدهم التي أسموها “زاقورة” وترجمتها “القمة المرتفعة”، فكانت خير برهان على علو كعبهم في الابتكار العمراني بين الأمم والحضارات السابقة. كل هذا حدث منذ ألوف السنين، وكان لقادة هذه الرقعة الجغرافية وملوكها ورؤسائها الباع الطويل واليد الطولى في رفد العلم والعلماء، وفتح ابواب خزائن الدولة وبيوت المال، فضلا عن ابواب قصور الخلافة والدولة، وتسخير الطاقات البشرية والمادية لدعم الكفاءات والقدرات من ذوي العقول، لإيصال علومهم وجديد إختراعاتهم الى دول المعمورة، الذين بدورهم استمدوا من تلك العقول أفكارهم، وطوروا عبرها صناعاتهم وباقي مرافق حياتهم. ويشهد بذلك المؤرخون والكتاب الغربيون الذين تزخر مؤلفاتهم بانجازات العراقيين القدماء.
وفي هذا أرخ المؤرخون، وكتب الكتاب، ونظم الشعراء، ودُونت الموسوعات، وخُطت الرقع والرقم والمجلدات، موثقة ماوصلت اليه المعارف على يد أبناء وادي الرافدين. وممن نظموا بحق دار السلام عاصمة بلاد ما بين النهرين، الشاعر علي الجارم الذي أنشد في قصيدة مطولة عرض فيها ماوصلت اليه بغداد، وهي قلب العراق من عمران ورقي في الفنون والأدب، الأمر الذي مجدها وخلدها قرونا وأجيالا متعاقبة، إذ يقول في غيض من فيض قصيدته:
بغداد يابلد الرشيد ومنارة المجد التليد
ياسطر مجد للعروبة خط في لوح الوجود
بغداد يادار النهى والفن يابيت القصيد
نبت القريض على ضفافك بين أفنان الورود
ولا أستطيع الجزم ان قادة العراق الحاليين جميعهم، مطلعون بأم أعينهم على كل هذه المؤرخات والقصائد في حق بلدهم العراق، ولكن هل سأل أحد منهم نفسه يوما السؤال الآتي: هل سأحتسب في مستقبل الأيام من القادة الذين أسهموا في نشر العلم والأدب وباقي المعارف، بفتح بابي للعلماء وطلاب العلم؟ وأدخل بذلك سفر التاريخ كقائد حدث في عصري تقدم وازدهار؟ ام سينشد الشعراء غير ذلك في عرقلتي سير العلم ومحاربة الرقي إبان حكمي!.
أظن إجابتهم جسدها شاعر يقول في أبياته:
بغداد يابغداد يابلد الرشـــيد
ذبحوك ياأختاه من حبل الوريد
جعلوكِ يا أختاه ارخص سلعة
باعـوكِ يا بغداد في سوق العبيد
ويل لبغـداد الرشـيد و أهلهـا
فهولاكو في بغداد يولد من جديد
وعدوا بتحريـر العراق و أهلـه
وعدوك يا بغداد بالعيش الرغيد
زهدوا بدجلةَ والفرات وعرضهم
باعوك في الحاناتِ بالثمن الزهيد
لا أظن التأريخ يذكر لقادة اليوم مآثر حققوها، غير التخلف والنكوص وتردي جوانب البلاد العلمية والثقافية، فضلا عن تقهقرها عن ركب الأمم بضع مئات من السنين الضوئية.