18 ديسمبر، 2024 9:42 م

سبع أساطير جديدة حول غوركي

سبع أساطير جديدة حول غوركي

نشرت الاستاذة المساعدة في جامعة كولومبيا الامريكية د. ناتاليا بيلاوسوفا بحثا تفصيليا عن مكسيم غوركي بعنوان – (سبع أساطير عن غوركي) , يتناول موقع غوركي في مسيرة الادب الروسي وتاريخه من وجهة نظر غير مطروقة بشكل واسع سابقا بالنسبة لمكسيم غوركي في روسيا بالذات وتاريخ آدابها , ونود هنا ان نستعرض هذا البحث للقارئ العربي ونتوقف ( قدر ما تسمح به طبيعة هذه المقالة طبعا ) عند بعض نقاطه , ونتناقش حولها مع الباحثة الامريكية المذكورة ( ذات الاصل الروسي كما هو واضح من اسمها ) .
نقطة الاختلاف الاساسية مع الباحثة الامريكية تكمن – من وجهة نظرنا – في عنوان بحثها , فكلمة ( اساطير ) تعني – مسبقا- موقفا واضحا و محددا ودقيقا حول تلك الجوانب , التي تناولها البحث المذكور, اذ انها ارادت ان تقول انها ( اساطير ) وليست حقائق !, وهذا الموقف او الحكم المسبق بحد ذاته يتعارض مع المفهوم الموضوعي السليم لأي بحث علمي .
( الاسطورة) الاولى , التي تتوقف عندها الباحثة كانت بعنوان – (غوركي – كاتب ضئيل )( حاولت ان اتجنب ترجمة الصفة هنا كما جاءت في النص الروسي ( والتي تعني ايضا – تافه) , رغم معرفتي , ان صفة (ضئيل) لا يمكن ان تعبربشكل كامل عن المعنى الذي ارادت الباحثة على ما يبدو اطلاقها على غوركي , وذلك لاني لم استطع (نفسيا قبل كل شئ) ان اكتب تلك الصفة جنب اسم غوركي , رغم علمي مسبقا ان ناقل الكفر ليس بكافر !) . تحاول الباحثة الاستشهاد بعدة اسماء روسية لامعة وتورد ما ذكروه عن غوركي , وهم – نابوكوف وميرشكوفسكي وبونين وتشيخوف وتسفيتايفا , والاسماء الثلاثة الاولى تحدثوا سلبا عن غوركي بعد ثورة اكتوبر1917 , وكان موقفهم – بالتالي – تجاه غوركي سياسيا واضحا قبل كل شئ طبعا ( خصوصا بونين) , ولم تذكر الباحثة ذلك , بل أشارت الى تلك الآراء بشكل مجرد وعام , الا انها لم تغير او تتلاعب في رأي تشيخوف وتسفيتايفا الايجابي حول غوركي , وهذا موقف جيد من الباحثة طبعا , ولكنها توقفت عندهما بعد الاستشهاد بآراء تلك الاسماء , في محاولة لاضفاء الموضوعية على طرحها , وكأنها تريد ان تقول انها مع تعددية الآراء حول غوركي ( رغم انها اختارت العنوان للاسطورة الاولى بشكل واضح وصريح كما ذكرنا أعلاه ) , واظن انه يجب الاشادة هنا برأي تسفيتايفا بالذات ( اذ انها كانت ضمن اللاجئين الروس ايضا آنذاك) , والتي أشارت فيه , الى ان غوركي هو الذي يستحق جائزة نوبل عام 1933 وليس بونين , لان غوركي يجسٌد ( العصر كله ) اما بونين فانه يمثٌل ( نهاية العصر ليس الا ).
الاسطورة الثانية بعنوان – غوركي مؤسس الواقعية الاشتراكية , وتتناول الباحثة هنا هذا الموضوع الذي اصبح عتيقا في الدراسات الادبية داخل روسيا نفسها منذ ستينيات القرن العشرين, اي قبل انهيار الاتحاد السوفيتي والمفاهيم والمصطلحات المرتبطة بتلك الفترة , وخلاصته ان غوركي نفسه لم يستخدم هذا المصطلح لا في كلماته ولا في مقالاته حول الادب, وهذا يعني ان هذه النقطة هي فعلا – (اسطورة) حول غوركي كما تسميها الباحثة – ( انظر مقالتنا بعنوان – غوركي وستالين والواقعية الاشتراكية ).
الاسطورة الثالثة جاءت بعنوان – غوركي المناضل ضد اللاعدالة الاجتماعية , وتتناول هذه الفقرة موقف غوركي من المجتمع . تطرح الباحثة هذه (الاسطورة) فلسفيا , اذ انها تعترف , ان غوركي ( انتفض ضد الواقع المحيط به ) , ولكنه من وجهة نظرها ( مجٌد الشئ الذي اراد ان يلعنه , ولعن الشئ الذي اراد ان يمجٌده ). تطرح الباحثة هنا موقف غوركي من الانسان وصراعه مع الموت وطموحه بالخلود والدور الذي تلعبه التضحية بالنفس في هذا المجال , وكيف ان غوركي أراد ان يغير النظم الاجتماعية كافة وحياة الانسان بشكل عام , رغم انها تشير , الى ان غوركي ( عكس – في الواقع – الانسان وكأنه وحش , بل حتى اسوأ من الوحش ) . ان هذه ( الاسطورة) تستحق التأمل والقراءة المعمقة رغم كل الآراء المتنافرة ( ان صح التعبير ) التي تتضمنها, القراءة المعمقة والموضوعية هذه ستؤدي الى مناقشة الآراء الواردة فيها وتحديد تناقضاتها ووضع النقاط على الحروف كما يقول التعبير المعروف .
الاسطورة الرابعة جاءت بعنوان – (غوركي – كاتب مضاد للحداثة ) . تتناول الباحثة في هذا الجزء موقف غوركي من كل الاتجاهات الادبية المتنوعة في عصره , وخصوصا تلك التي ارتبطت ب ( العصر الفضي ) في تاريخ الادب الروسي , وهي فترة بداية القرن العشرين , وسنوات العشرينات بالذات من ( الرمزية ) و ( المستقبلية )…الخ. تؤكد الباحثة هنا , ان واقعية غوركي تختلف عن واقعية غانجيروف وأستروفسكي وغيرهم من الادباء الروس الكبار في القرن التاسع عشر, وتتحدٌث عن النظرة السوفيتية الى هذه الواقعية (والتي كانوا يعتبرونها استمرارا لما طرحه القرن التاسع عشروتطويرا لها) وتشير الى انها نظرة ساذجة وسطحية وغير دقيقة , بل انها ترى ان واقعية غوركي تكاد تقترب من ملامح ( الرمزية ). هذا الجزء من البحث يستحق – كما الجزء السابق – القراءة المعمقة فعلا , اذ توجد فيه آراء جديدة حول غوركي يمكن متابعتها بدقة وموضوعية في ثنايا نتاجاته الادبية خصوصا والفكرية عموما , وما بين سطورها ايضا.
الاسطورة الخامسة في هذا البحث جاءت بعنوان – ( غوركي ولينين ). تشير الباحثة الى سعة هذا الموضوع ( وهي على حق ) , وكيف تناولته النظرة السوفيتية في وسائل اعلامها كافة , بما فيها انعكاس الموضوع في الفن التشكيلي , وتنشر مع البحث لوحة مشهورة لغوركي ولينين وهما يجلسان في قارب و يصطادان السمك في ايطاليا . ترى الباحثة ان غوركي نفسه ساهم في هذه ( الاسطورة ) بمقالاته عن لينين . تؤكد الباحثة في هذا الجزء من بحثها على الوقائع التي أعقبت ثورة اكتوبر 1917 , وكيف ان غوركي تحدث عن الجوانب السلبية للثورة الاشتراكية في كتابه ( افكار في غير وقتها ) , الذي لم ينشر في روسيا السوفيتية آنذاك ( تم نشره عام 1990 ليس الا) , وتتوقف عند علاقة غوركي المتوترة مع زينوفييف ( رئيس مجلس بيتروغراد عندئذ , والذي أعدمه ستالين عام 1937 ) , ثم تشير الى ان غوركي قد اضطر ان يترك روسيا ويسافر الى الخارج , حيث بقي هناك أكثر من عشر سنوات , وتستنتج – ( ان مغني الثورة وبشيرها لم يجد له مكانا بعد انتصار الثورة ! ) .
الاسطورة السادسة بعنوان – ( غوركي وستالين ) , وهو جزء حيوي جدا في هذا البحث , وتتناول الباحثة هنا عودة غوركي الى الاتحاد السوفيتي واحتضان ستالين له , والذي اعاده الى صدارة الحياة الثقافية في روسيا ( وهي المكانة التي لم يستطع الحصول عليها زمن لينين ) . تقول الباحثة ضمن استناجاتها هنا , ان ستالينية غوركي كانت حقيقية وواضحة , ولكن علاقته الشخصية بستالين كانت محايدة , رغم انها تشير الى مختلف الاشاعات حول هذا الموضوع , بما فيها الاشاعة حول تهديدات ستالين له وحتى المشاركة في قتله . ان علاقة غوركي بلينين وبستالين ( الاسطورة الخامسة والسادسة ) موضوعان يستحقان ان يتناولها المتخصصون العرب في الادب الروسي بتفصيل موضوعي اوسع , لانهما مهمان فعلا للقارئ العربي المعاصر , ولازالا غير واضحين تماما لهذا القارئ , وكذلك بالنسبة للاسطورة السابعة , والتي جاءت بعنوان – غوركي والشعب الروسي واليهود , والتي تناولت الباحثة فيها موقف غوركي منهما .
بحث الاستاذة المساعدة في جامعة كولومبيا الامريكية د. ناتاليا بيلاوسوفا يستحق الترجمة الى العربية كاملا ليطلع عليه القراء العرب ودراسته بامعان وموضوعية رغم كل الملاحظات عنه , لانه محاولة جديدة وشاملة في طبيعة الدراسات حول اديب باهمية غوركي ومكانته في الادب الروسي اولا والادب العالمي ثانيا .