23 ديسمبر، 2024 11:42 ص

سايكس بيكو المظلومة

سايكس بيكو المظلومة

قد يتفاجاء البعض بل قد تصل المفاجاة حد الاستهجان لوصف اتفاق استعماري بالمظلوم ولكن مادعى لاطلاق هذا الوصف على الاتفاق الذي تم بين بين المندوب السامي الفرنسي في لبنان جورج بيكو والمندوب السامي البريطاني في القاهرة السير مارك سايكس هو محاولة التضليل وخلط الاوراق التي حصلت في تناول تلك الاتفاقية والتي للاسف انساق اليها الكثير من المثقفين والسياسيين العرب والكورد واصبحوا يرددون النغمة التي لحنها وعزفها ثعلب السياسة الخارجية التركي الدكتور احمد داود اوغلو ليصبح تعبير (الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو) من التعابير الشائعة في الصحافة العربية واصبح شعار التحرر من اثار تلك الاتفاقية هو الشعار الابرز في الادبيات العربية التي تتناول منطقة الشرق الاوسط . فهل حقا ان تلك الاتفاق هو سبب ماجرى ويجري في المنطقة ؟ومن هو المتضرر الاكبر من تلك الاتفاقية؟ وماهي الاثار التي تركتها تلك الاتفاقية على مصير المنطقة ؟ هذا ماسنحاول الاجابة عليه .

بالعودة الى الاتفاق الذي الموقع بين السير مارك سايكس والمسيو جورج بيكو المعروف ب”اتفاقية القاهرة السريّة” نجد ان هذا الاتفاق قد تم توقيعه بين المندبين الساميين البريطاني والفرنسي بحضور سازانوف ممثل روسيا القيصريه في السادس عشر من أيار ـ مايو من العام 1916، والتي بقيت طي الكتمان ريثما تنضج الظروف المحيطة بها نجد ان هذا الاتفاق لم يرسم حدود دول ولم يقسم المنطقة الى دول بل ان هذا الاتفاق انتهى عمليا مع توقيع اتفاقية فرساي في نهاية الحرب العالمية الاولى . من هذا المنطلق لماذا تم اعتبار هذا الاتفاق مسؤولا عن مأسي المنطقة في حين ان هناك اتفاقيات رسمت حدودا ونادرا ماتذكر ؟.

للوصول الى الاجابة نحتاج الى العودة الى الظروف الدولية التي تم فيها توقيع ذلك الاتفاق واثره على رسم المنطقة . ففي عام 1853 دعى قيصر روسيا نيقولا الأول دول اوربا الى تقاسم تركة (رجل اوربا المريض) ويقصد به السلطنة العثمانية التي كانت في مرحلة لفظ الانفاس الاخيرة . كانت تلك الدعوى بمثابة طلقة البداية لمفاوضات ومباحثات طويلة بين الدول الثلاث روسيا وبريطانيا وفرنسا وخصوصا بعد مذبحة دمشق عام 1860 والتي تم خلالها تدمير حارة النصارى في دمشق وقتل حوالي 20 الف نصراني في لبنان وسوريا . الا ان رغبة بريطانيا بمنع وصول النفوذ الروسي الى المياه الدافئة في الخليج العربي ادت الى تعثر تلك المفاوضات . مع اندلاع الحرب العالمية الاولى وانضمام الدولة العثمانية الى المانيا في حربها ضد الحلفاء عادت وتيرة المفاوضات للانطلاق ليتم في الرابع من اذار عام 1916 توقيع اتفاقية سان بطرسبرغ بين فرنسا وبريطانيا وروسيا القصيرية على تقاسم مناطق النفوذ في تركة الدولة العثمانية لتحصل بموجبها روسيا القيصرية على ولايتا أرضروم وتبليس والمناطق التابعة لهما إضافة الى الأراضي الكائنة جنوبي كردستان و تمتد على خط ولاية موش إلى سعرد،ومن هناك ينحدر إلى جزيرة ابن عمر ثم تتبع خطاً مستقيماً إلى العمادية ومنها إلى الحدود الإيرانية وتتجه نقطة الحدود هذه من موش شملاً إلى البحر الأسود وشرقي طرابزون، أما فرنسا فكان نصيبها السواحل السورية وتبدأ من حدود الناقورة مارة بصور و صيدا فبيروت فطرابلس و اللاذقية و تنتهي في الاسكندرونةكما تضم المناطق الساحلية جميعها إلى فرنسا مع جبل لبنان المعروفة حدوده بموجب الاتفاق الدولي المعقود سنة 1861وتضم جزيرة أرواد و المناطق المجاورة لها

،والجزر الصغيرة القائمة على الساحل نفسه وتضم مقاطعة كيليكية (أدنة) من جهة الجنوب من الحدود الخاضعة للنفوذ الروسي في جزيرة ابن عمر ثم تتجه إلى عينتاب و ماردين ثم تنحدر شمالاً من قيصري،يلدز , زرعه واكين وخربوط وتظل هذه المنطقة خاضعة تمام الخضوع للنفوذ الفرنسي.أما بريطانيا فكان نصيبها سواحل فلسطين والعراق وجزيرة العرب . أما فلسطين فتوضع تحت إدارة خاصة وفقاً لاتفاق يعقد بين إنكلترا وفرنسا وروسيا. وبموجب معاهدة سان جان دي مورين انضمت ايطاليا الى تلك الاتفاقية بعد أن أعلنت الحرب على ألمانيا في آب 1916، و حصلت ايطاليا بموجب الإتفاقية على مناطق آتاليا، قونية، آيدن و إزمير، ثم وَعَدَت إنكلترا و فرنسا اليونانيين بإزمير.

بعد توقيع اتفاقية سان بطرسبرغ وخشية من تدخل الرئيس الامريكي ويلسون لمعارضة اتفاقيات تقسيم النفوذ سافر جورج بيكو المندوب السامي الفرنسي من لبنان إلى القاهرة واجتمع بالسير مارك سايكس المندوب السامي البريطاني في مصر، اجتماعاً سرياً كان بحضور سازانوف مندوب روسيا ، بتاريخ 16 مايو 1916لتقسيم مناطق النفوذ التي حصلت عليها الدولتان بموجب اتفاقية سان بطرسبرغ .

في اكتوبر من عام 1917 سقط النظام القيصري في موسكو وحل محله النظام الشيوعي بقيادة لينين وعثرت قوات الثورة البولشفيه في منزل سازانوف على محاضر جلسات اتفاقية القاهرة والنص الموقع للاتفاق بين فرنسا وبريطانيا وقرروا نشره على العالم وكان ذلك الرصاصة التي انهت الاتفاق بصورة نهائية حيث ان اتفاقية فرساي التي عقد بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى اعادت رسم خارطة العالم وفقا لمصلحة المنتصرين لتليها بعد ذلك اتفاقية سيفر التي عقدت في 10 اب 1920 وهي اول واخر اتفاقية يتم فيها تمثيل كردستان باعتبارها طرفا في اتفاقية دولية وتضمنت تلك المعاهدة التخلي عن جميع الأراضي العثمانية لغير الناطقين باللغة التركية، إضافة إلى إستيلاء الحلفاء على أراضي تركية كما ان الاتفاقية قد وضعت الخطوط العريضة لدولة كردستان مقتطعة من الاراضي التركية .

أذن من الناحية القانونية فالاتفاق هو اتفاق تنفيذي متفرع من اتفاقية سان بطرسبرغ ويختص بتوزيع مناطق نفوذ استعمارية ولم يحدد حدودا ولم ينشا دولا كما ان الاتفاق لم يكتب له الحياة سوى سنة واحدة ليتم استبداله باتفاقيات دولية رسمت حدود دول المنطقة .

نعود اذن الى السؤال الذي بدأبنا به المقال لماذا يتم التركيز على هذا الاتفاق الاستعماري ويتم غض النظر عن مالحقه من اتفاقيات ؟ واعتقد بان الجواب يكمن في ان من مصلحة الدولة التركية الحديثة وفقا لاستراتيجية حزب العدالة والتنمية الساعية الى اعادة بث الحياة في اوصال الحلم العثماني ان تتم عملية خلط الاوراق لاستعادة مناطق النفوذ التي خسرتها مع سقوط الدولة العثمانية وحيث ان العقل الاستراتيجي التركي يدرك بعدم امكانية التحرش بالدب الروسي في الشرق وخصوصا ان اتفاقية قارص بين روسيا وتركيا تخضع للمراجعة الروسية وفقا لاحكام تلك الاتفاقية كل خمس وعشرين عام واثارة موضوع اعادة رسم مناطق النفوذ في الشرق قد يؤدي الى خسارة تركيا حوالي ثلث مساحتها الحالية . كما ان تركيا تدرك بان اثارة اي جدل حول الحدود مع ايران غير مضمون العواقب . لذلك اتجهت الانظار التركية الى الجنوب لاستغلال الظروف التي ساعدت تركيا وحلفائها على ايجادها في منطقة الحدود العراقية السورية التركية من اجل استعادة مناطق النفوذ التي خسرتها نتيجة اتفاقية لوزان عام 1923 بعد ان تمكن كمال اتاتورك بمساعدة الولايات المتحدة

الامريكية من اجهاض معاهدة سيفر لعام 1920 والقضاء على حلم انشاء دولة كردستان في المنطقة الجنوبية من تركيا الحالية .

الحلم التركي الحالي يتركز في اجتياز حاجز الجبال على الحدود العراقية السورية التركية وصولا الى السهل الذي يلي ذلك الحاجز والذي يتمثل في مدينتي الموصل في العراق ومدينة حلب في سوريا وحيث ان اتفاقية لوزان اتفاقية دولية لرسم الحدود والمعروف في القانون الدولي ان اتفاقيات الحدود لايمكن تعديلها الا باتفاق كافة اطراف المعاهدة لذلك فان تعديل اتفاقية لوزان يعتبر حلم بعيد المنال , لذلك تسعى تركيا الى اثارة عواطف سكان المناطق الحدودية باستغلال الطابع البغيض لاتفاق استعماري يعتبر معدوم الاثر من اجل تحقيق هدف قريب المدى يتمثل في انشاء اقاليم شبه مستقلة يكون لتركيا بحكم القرب الجغرافي اليد الطولى في ادارتها حتى تحقيق الهدف الابعد وهو ضم تلك المنطاق الى نفوذها مرة اخرى . بتحقيق ذلك الهدف تتمكن تركيا من محاصرة اي جهد لانشاء دولة مستقلة للكورد وتظهر امام العالم كقوى اقليمية رئيسية تجبر العالم على التعامل معها على هذا الاساس وتحقيق الامنية الاتاتوركية القديمة بالانضمام للاتحاد الاوربي بالاضافة الى السيطرة على عقدة انابيب الغاز المجهزة لاوربا من قطر وروسيا وايران .

انطلاقا مما تقدم يجب ان نتعود النظر دائما الى الصورة الواسعة لادراك الاهداف البعيدة والقريبة لاي تحرك دولي فالعالم اليوم لايقوم على النوايا الصادقة ولا على المثل العليا بل ان كل دولة في العالم وهذا حق لها تسعى لتحقيق مصالحها باي طريقة كانت من اجل ضمان مستقبل الاجيال القادمة والواجب يحتم على الجميع ان يشتركوا في ذلك السعي والا سنشهد قريبا اختفاء دول وظهور كيانات اخرى .