23 ديسمبر، 2024 11:37 ص

سامراء عروسة التأريخ!!

سامراء عروسة التأريخ!!

سامراء المدينة التي تربّعت على عرش التأريخ العربي الإسلامي لأكثر من نصف قرن متوهجٍ بالعطاءات الملحمية والتفاعلات الحامية في جميع ميادين الصيرورات الحضارية والفكرية والثقافية ، فكشفت عن مفاتن روعتها وسطوعها المنير في الآفاق الأبدية.
وسميت “سرّ مَن رأى” لما امتلكته من حُسنٍ وبهاءٍ وروعةٍ وقوةٍ وتأثير في عصرها المتنامي , المتدفق بالأحداث والتطورات التاريخية المحتدمة والمتسابقة مع خطوات الدوران الأرضي.
وقد أمعن البناؤون والمعماريون في إستحضار آيات الفن والريازة والجمال المتميز، والذي أوجد مدرسة عربية إسلامية عمرانية هي مدرسة “سر من رأى”، التي أثرت في أساليب وطرز البناء والعمارة الإسلامية في ولايات الدولة العباسية وما بعدها.
ومن خصائص سامراء أنها وُلدت باهرة متألقة ومنطلقة في فضاءات الذروة الحضارية العباسية وأوج قدراتها الفكرية والعسكرية والفنية ، مما جعلها تمثل خلاصة عصرها المتنامي الطاقات والتفاعلات الأصيلة المتجددة.
فكانت فيها ثورة العمارة الإسلامية ، والإرادة والكرامة والعزة , والغيرة التي عبّر عنها الخليفة المعتصم بتلبيته لنداء ” وامعتصماه”، فلو لم تكن قدرات الدولة في أوجها لما قرر المعتصم أن يقود حملته لفتح عمورية، وكان قراره فوريا وحاسما وثوريا، ومؤكدا على القوة والثقة والكبرياء والإيمان، برغم تحذير المنجمين وتخويف المترددين.
وقد شرح تفاصيل فتح الفتوح الشاعر أبو تمام في قصيدته التي أنشدها في سامراء , والتي قال فيها ” السيف أصدق أنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب”.
ومضت سامراء في عرس متواصل لما يقرب من ستة عقود، تفاخرت بجواهر الإبداع والإبتكار والإنطلاق المتفوق في جميع الأرجاء.
وعرس سامراء من الأعراس الحضارية التأريخية النادرة المبتهجة النشطة الجذابة ، حتى تم إستحضار آيات الحسن والفن من جميع ولايات الدولة العباسية.
وكانت بركة المتوكل وروعة هندستها وطرازها الرومانسي يوحي بمدى قوة الإحساس والوعي الجمالي والخيالي لمعاني الحياة وجوهر غاياتها، وما يطيب فيها من الذوق الرفيع الراقي لفنون الرقص والموسيقى والألحان، التي صدحت بها حناجر المغنيات البارعات، في أماسي لياليها الفاتنات على ضفاف دجلة الذي يعزف سفونية الحياة بإرادته الخالدة.
وقد فاق المتوكل خلفاء بني العباس في إمعانه بالتفاعل المطلق مع الحياة والقوة والإرادة الصلبة الواثقة الأبية ، فأوجد في سامراء ليالي تسيّدت على أخبار الأزمان بما يدور فيها من الطرب والشعر والرقص والغناء , والتعبير الأكمل عن مكامن الروعة والجمال البشري.
وزهت سامراء وارتقت وتأنّقت، حتى تفوقت على بغداد، وصار أهلها أكثر تبغددا من أهالي بغداد، وكأنها أصبحت جنة خلابة في بلاد الرافدين، وتحفة عمرانية نادرة تضع على رأسها تاج القوة والشموخ والشمم العربي السامي النبيل.
هذه العروس الشابة الجميلة الزاهية المتباهية، عاشت عقودها الخمسة وكأنها في حلم يقظة أو فضاء خيال مطلق، حتى تداعت أركان أنوارها وداهمتها النوائب والصراعات والتحديات فأحالتها في ليلة وضحاها إلى مدينة مهجورة تتباكى قصورها على أهلها وتتشوق لأناسها الذين أسسوا ملحمة التاريخ والحضارة والحياة. وقد بكاها الشاعر العباسي السامرائي إبن المعتز وتألم على ما أصابها، فبعد أن كانت عروسا نضرة متدفقة بالحيوية والجمال والحماس، أصبحت خرائبَ تعوي فيها الكلاب وتنتشر في دروبها المخاوف وتتكاثر الآفات.
لكن سامراء رغم ما أصابها ، تمكنت من الحفاظ على ما يشير إلى تلك العظمة وذلك العرس التأريخي الهادر، وهذا يؤكد عنفوان أصلها وقوتها وغاية روعتها , التي جسّدها الإنسان العربي المالك لإرادته والمقرر لمصيره وحالة وجوده.
وستبقى سامراء عروسة العراق ورمزه العربي الإسلامي المتفاعل الأصيل، ولن تنحني للعاديات، فالذي بنى سامراء كان شامخا ومتألقا في سماوات الحضارة والتأريخ والإنسانية، ومعبّرا عن قوة العروبة والإسلام وصوت الحق والفرقان.
ومَن يستهدف سامراء يريد النيل من جوهر الروح العربية الإسلامية الإنسانية الجامعة المانعة , المعطرة بالأخوة والرحمة والمحبة والألفة البشرية الصالحة للإبداع والعطاء الحضاري المتجدد المنير.
وستبقى سامراء رمزا لوحدة أمة ونورا لجوهر دينها وعروبتها وقيَمها الحضارية النبيلة السامية.