تقاس عظمة الأمم وقوتها على الأرض وفقا لعدة معطيات لعل أبرزها الاهتمام بالإنسان المنتج والفاعل ورعاية الطاقات والإمكانيات في مسرح الحياة ، فهذه العظمة والاصالة لا تتوقف على الطبيعية الجغرافية ، كما يتصور البعض ، ذلك لا يعني التقليل من شان الجغرافية ، بل إن العظمة كما هو معروف صناعة إنسانية بحته ، فهناك الكثير من الدول التي تتمتع برقعة جغرافية مميزة ، لكنها تقبع تحت الاحتلال والفشل والمراوحة والخيبة ، كما هي الدول العربية ، وبالمقابل تجد القدرة الإنسانية ، قد ذللت من صعوبة الجغرافية ووطأتها وخلقت منها دول تحتضن الإنسان ، ومع هذه المعادلة التي تعتبر الإطار العام لمقياس حجم تقدم الدول ، يشذ العراق بشكل يفوق الخيال والمتابعة ، بوصفة بيئة طاردة للإبداع ، وخانقة للكفاءات ، ومحاصرة للعقول ، وناقمة على القدرات ، رغم طبيعته الجيدة وطاقاته الإنسانية الخلاقة ، فهو لم يستثمر الطرفين ، لدرجة يستحيل صمود العقول الزاخرة بالعطاء والفكر والإبداع فترة طويلة في البلاد ،
لهذا نلاحظ إن الصفات المكتسبة للعراق هو انه مصدر ومغذي بقاع الأرض من عقول أبنائه ، بالرغم من حاجته لها ، لكنه غير قادر على ان يوفر الحواضن والأساسيات البسيطة لبقائهم على رقعته .
وهنا لا أريد إن أطيل في هذه المقدمة لكنها ضرورة استهلالية لسطور المقال ،
فلا يخفى على الجميع الأستاذ سالم مشكور الكاتب الحاذق والإعلامي العتيق ، والصحفي المخضرم صاحب الرؤية الثاقبة والتحليل الدقيق والتشخيص المنصف للتطورات والأزمات التي تعصف في البلاد ، وقد عرفه العراقيون بصغارهم وكبارهم من خلال برنامجه ذائع الصيت ، (حديث النهرين) من قناة الحرة عراق ، والذي كان بمثابة وثيقة مدنية ومشروع سياسي، ونهج عام لبناء دولة جديدة ، هذا الأمر بالنسبة لجيل الحرب ، اما غيرهم فقد عرفوه ، من خلال مؤلفاته الفكرية والثقافية عن العراق ومحيطة وكتاباته في الصحف العالمية والعربية وبرامجه الإذاعية والتلفزيونية في لبنان والأردن وأمريكا ، فضلا عن أوربا منذ أكثر من ثلاثين عام ، حين كان الإعلامي الأول الذي واجه ترسانة صدام العسكرية ووقف بوجها رغم قساوتها وظلمها ، وهو ينتقل من بلاد إلى أخرى ، بحثا عن ارض تساعده في توجيه أفكاره ضد الديكتاتورية آنذاك ، بهدف تحرير بلاده من الحيف والتعسف والظلم ، حتى استقر به معد ومقدم ومنتج للبرامج في إذاعة العراق الحر في ابراغ ، وقد صنع منها منبر اعلامي مميز ، يحاكي معاناة وأوجاع العراقيين في المنفى وفي الداخل ، حتى حانت لحظة السقوط ، واستبشر خيرا بالقادم فاسرع بعد اتصالات أجريت معه لتأسيس قناة الحرة عراق ، لتكون الوسيلة الإعلامية الأساسية في دعم التحول ، وإرساء ، قواعد استقرار الدولة الفتية ، فكان أول مدير عام للقناة. وبدا يجمع الإعلاميين العراقيين ، ويحثم على إنتاج الأفكار والبرامج التي تقف ضد الموجة الشرسة وتروج لمشروع العراق الخارج من رحم الدمار وحقا كان بارع في ذلك ، لاسيما دعمه للديمقراطية ،في خطوة تهدف الى دفع العراق قدما ليتجاوز المحن التي كانت بانتظاره ، وبعد ذلك جاء الى بغداد وهو يحمل حلم التجديد والتحديث ونفض الغبارعن وطن يرزح تحت نير الجبروت ، وعمل على إنتاج برنامج حديث النهرين ، كما اسلفنا…
لكن يبدو إن هذا الحلم سرعان ما تهاوى وانطمر وسط التسابق المحموم والتنافس غير المشروع من قبل القوى الإسلامية وغيرها على تقسيم العراق وتوزيعة كحصص بين جميع المتخاصمين ،
وهذا كان الإنذار الأول بالنسبة له ، بان العراق لن يتعافى بل سيكون أسوا من السابق ، وأول الغيث كان تركه للبرنامج ، بعد الحرب الطاحنة التي شنت من اقرب الناس إليه ، رغم انه من جاء بهم لكنهم تنكروا لجميله ، مع كل ذلك لم ييأس الرجل ، وبقى يبحث عن الضوء في ظلام العراق، ويعمل مع الجهات الخيرة والوطنية ، لكن الجميع كان ضده كونه يحمل الهم الوطني المفقود لدى الساسة ، وأخر المشوار كان عمله في هيئة الاتصالات من اجل بناء منظومة إعلامية عراقية حرة ، بيد إن الحرب لم تتوقف ضده ،
حتى حانت ما يسميها لحظة الصفر ، وهو يحدثني قبل بضعة أيام فكانت صراحة مثل الصاعقة نزلت على راسي حين قال بان سيغادر العراق للأبد لانه لم يعد مكان لكل مبدع ، تألمت كثيرا وندبت حظي العاثر على هذا الوطن المجروح ، لكني أيقنت بان هذه البلاد لاتسع لكل من يحمل حلم الخلاص والتغير والتطور …..
وفي الختام أقول أيها الأستاذ الجليل سالم مشكور بان كلماتي ليس الغاية منها التعريف بك او الكتابة عنك فأنت اكبر من ذلك لكنها سطور شاب ظل ينظر بالم لكل العقول التي غادرة وتغادر بهدوء وبشكل عكسي ليعود العراق مرة أخرى بدون أسوار وافكار .