ثمة تجاهل لمن حرثوا وغرسوا وبنو بعض اللبنات الأولى، وهذا التجاهل يكاد يكون علامة مشهدنا الأدبي- الثقافي والاجتماعي ولا يحدث هذا الإهمال إلا ضمن هذا الجانب والتوجه العراقي ، والبصري بالذات والذي يتسم باللاموضوعية العامة.من هنا نرى أن نسهم بقدر ما نستطيع للوقوف بوجه النسيان في هذا الجانب ، لعلنا نتمكن من متابعة بعض الشخصيات الثقافية – الاجتماعية والتي يزخر بها تاريخ البصرة ، وعلى وفق ما نستطيع. ينتمي الراحل الشاعر والكاتب والمثقف (سالم علوان الجلبي) إلى أسرة عريقة، موطنها في قضاء القرنة وعُرفت بإخلاصها ومواقفها الوطنية وبوقوف بعض شخصياتها بوجه الأطماع الأجنبية التي تناوشت العراق. ومنذ تمكن الشعر منه وهو في نهاية الدراسة الابتدائية لم يعرف عنه الكتابة مدحاً لأي مسئول في الدولة وأي حاكم ما، ونأى بنفسه على وفق تربيته وشخصيته الرصينة التكسب عن أي مطمع رخيص ، لكنه انحاز فقط في شعره كما يذكر هو بالذات إلى مدح الرسول الكريم محمد(ص) وآل بيته (ع) دون تعصب أو نزوع طائفي، كما كتب عن بعض الشخصيات المعروفة بمواقفها الوطنية العراقية الأصيلة. ولد الراحل سالم علون الجلبي عام1912 في مدينة القرنة والتي يقول عنها” أنها شبه جزيرة تقترن فيها انهر ثلاثة تقوم على ضفافها باسقات النخيل تحرس اله الماء وربة الخصب” ومن خلال مدينته أحب الشعر حتى انه قال في حوار معه” ليس غريباً أن يولد شاعر في القرنة ولكن الغريب ألا يكون كلّ أهلها شعراء”. بعد إكماله الدراسة المتوسطة توجه إلى الدراسة في دار المعلمين الابتدائية في العام الدراسي 1928 – 1929. نتيجة لتوجهاته الثقافية الجدية حظي باهتمام (جمعية الثقافة العربية) في دار المعلمين الابتدائية، وبالذات من قبل مدير الدار الدكتور( متي عقراوي) الذي شخص فيه اهتماماته الثقافية- الأدبية وعمل على تنميتها. وبعد تخرجه بتفوق عين معلماً في مدرسة القرنة الابتدائية. لم تنحصر التوجهات الثقافية للراحل في حدود الدراسة المنهجية بل توجه لتمتين ثقافته من خلال دراسته الحرة و إشباع رغبته الخاصة في التوسع و الدراسة المنفتحة على العلوم اللغوية والأدبية والدينية وكذلك اطلاعاته الواسعة على كتب الأدب والتراث الشعري العربي القديم وانفتاحه على تيارات التجديد الأدبي- الثقافي حينها، كما اطلع على العلوم الفلسفية والتاريخية. وعمد على إقامة صلة شخصية ومراسلات مع بعض الأدباء العرب والعراقيين وكذلك الشخصيات الاجتماعية ، ومنهم ميخائيل نعيمة والدكتور احمد زكي أبو شادي والشاعران الياس و زكي قنصل والأساتذة مصطفى علي وهلال ناجي ومحمد سعيد الجلبي وألبير أديب وأحمد حسن الزيات وغيرهم. كما درس (القران الكريم) لإثراء ثروته اللغوية والفكرية، وحفظ الكثير من سوره وآياته واطلع على بعض التفسيرات الفقهية المتعددة التي تناولته ، معتمداً عليه بصفته مصدراً من مصادر ثقافته الأصلية وخاصة ما يتعلق بألفاظه ومعانيه ومراميه. وهو يؤكد بأنه يقول الشعر لا على احتراف، بل متى ما جاش في خاطره.وقد ساهم بشعره في الاحتفالات والمناسبات المختلفة الدينية والوطنية والتي كانت تقام من قبل”نادي المهلب بن أبي صفرة” وكذلك” النادي الملكي” في البصرة، ومشاركته المتواصلة في لجان تحكيم الشعر في الفعاليات الأدبية- الثقافية بين طلبة المدارس في البصرة، أوفد ليكون مديراً للمدرسة العربية في(الاحواز) فوضع منهجاً لتدريس اللغة العربية فيها على وفق مدرسة النحو البصرية، وتم اعتماد هذا المنهج رسمياً من قبل وزارة التربية العراقية، كما ألغى عطلة يوم السبت الدراسية واستعاض عنها بيوم الجمعة. نشر الكثير من شعره ومقالاته الأدبية والاجتماعية في مجلات”ابولو” لصاحبها احمد زكي أبو شادي ،و “الرسالة والرواية” لصاحبهما” احمد حسن الزيات” و”العلوم” لصاحبها”منير البعلبكي”و”الأديب” لصاحبها”ألبير أديب” وكذلك مجلات ” الأدب والمثقف العربي والثقافة”. كما نشر نتاجاته المتنوعة في الصحف العراقية المعروفة ومنها البلاد لرفائيل بطي والاتحاد لناجي العبيدي واليقظة والحرية والهاتف لجعفر الخليلي والدستور والجمهورية، واغلب الصحف والمجلات التي صدرت في البصرة ومنها” الناس والبصرة والثمرات والخبر وصوت الفيحاء”.وقد أشاد بثقافته المتنوعة ومكانته الأدبية عدد من الباحثين كما وردت ترجمة لشعره وشخصه في عدد من الكتب منها” شعراء العراق المعاصرون” لغازي حميد الكنين، و”دراسات أدبية” لغالب الناهي، وقد خصه رفائيل بطي بمقال مطول حول كتابه “مجرى الاوشال” الذي عارض فيه بعض طروحات وأفكار الشاعر جميل صدقي الزهاوي، فكتب عنه (بطي) في جريدة البلاد وبعددها المرقم 4442 عام 1955 ما يلي:” يمكنني أن اعد كتاب” مجرى الاوشال” بارقة تجلٍ في جو أدبي جديد تطلع كواكبه في سماء العراق وننتظر من المؤلف الشاب أن يواصل أعماله الأدبية بهذه العقلية وهذه الصراحة ولديه من أدوات الناقد: العلم والذوق والإحساس ما يضمن له النجاح” . وفي عدد جريدة اليقظة المرقم 2608 الصادر عام 1956 كتب عنه عبد المجيد الدجيلي ما يلي:” الأستاذ (الجلبي) من عشاق الأدب عامة ، والزهاوي خاصة ، يمتاز بالأسلوب السهل المنبسط والخيال المتسامي والعواطف الجياشة.. وهو فوق ذلك شاعر متدفق الشعور ثائر الإحساس حتى في قصائده الاستعراضية أو الوصفية”.كما كتب عنه و أشار إلى أثاره الأدبية وشعره كل من عبد الرزاق النجفي ومحمد ناجي طاهر ومتعب مناف. وأورد المؤلف والمخرج المسرحي الراحل جبار صبري العطية في موندراما ” تحت المطر” ذكره و كتابه “مجرى الاوشال” كأحد العلامات الثقافية البصرية. اصدر الراحل المؤلفات التالية” أحاسيس ثائرة” عام 1956 وهي مجموعته الشعرية الأولى، كما اصدر قصيدة(روعة الذكرى) مكرسة لمدح الرسول محمد.واصدر كتابه النقدي “مجرى الاوشال” بطبعتين الأولى 1954 والثانية 1955 تناول فيه شعر الشاعر الزهاوي وديوانه” الاوشال”. وقد تم الاهتمام عربياً وعراقياً في كتابه هذا، فكتب عنه “ميخائيل نعمة”:”نقع في كتاب(مجرى الاوشال)على ناقد استقامت مقاييسه الفنية، استقامة نيته وذوقه وهو لا يحرق البخور جزافاً زلفى”. وأضاف: انه في نقده للزهاوي في اوشاله يكشف عن ذوق رفيع وتمنى على الله أن يزيده نوراً ونشاطاً. عام 1972 أصدر كتابه ” المسافر والدليل” وهو دراسة بحثية لديوان الشاعر”رزوق فرج رزوق” وقد صمم غلافه الفنان التشكيلي، المقيم في هولندا حالياً، “علي طالب” الذي كان مدرساً للفن في معهد المعلمين المركزي في البصرة. في صباح السابع من أيلول عام 1996 رحل المربي والمثقف الوطني والشاعر والكاتب” سالم علوان الجلبي” فشيعه عدد كبير من معارفه، ودفن في مقبرة وادي السلام بمحافظة النجف.ونعته الأوساط الاجتماعية والثقافية العراقية ، كما خصه اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في البصرة بجلسة خاصة في اربعينيته، ساهم فيها بعض زملائه، و طلبته و الذين أصبحوا من الأدباء والكتاب وأساتذة في المدارس الثانوية البصرية وكذلك جامعتها، وبعض الجامعات العراقية والعربية والعالمية .عام 2000 تقدم الطالب “صبار شبوط طلاع” برسالة ماجستير إلى كلية التربية/ قسم اللغة العربية / جامعة البصرة، بعنوان: “شعر سالم علوان الجلبي- دراسة موضوعية وفنية”، وقد تم قبول الرسالة بدرجة جيد جداً، لكنها لم تنشر حتى الآن. وقد كرمنا بالاطلاع عليها، نجله أستاذنا الفاضل المربي ” ا.د. قصي سالم علوان الجلبي” و نؤكد استفادتنا منها، في بعض ما ورد أعلاه، ونؤكد إن في بعضها معلومات غير دقيقة ، خاصةً عن نشاط الراحل الثقافي، وهو ما أفادنا به أستاذنا (ا.د. قصي). في الصفحتين الأخيرتين من ديوانه الشعري “أحاسيس ثائرة” الصادر عام 1956 عن مطبعة الأديب-البصرة، يذكر الراحل”سالم علوان الجلبي” انه سيصدر له قريباً المؤلفات التالية: “بالمناسبة” شعر، و” ثورة في الجحيم” دراسات أدبية، و “بائعة الأعراض” قصص، و” فيض الخاطر” مقالات، و”الدكتور أبو شادي في ديوانه- من السماء” دراسة تحليلية، ولكنها لم تصدر!!. ولا نعلم بالظروف التي كانت خلف ذلك!؟.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من كتاب معد للطبع بعنوان (تلك المدينة..)، و يتألف من ثلاثة أقسام: الأول (الفيصلية..) والثاني:(مقهى الدَّكة..فضاء ثقافي.. وزمن سبعيني..) والثالث(بصريون..).