ذهبت وولدي إلى ساحة التحرير ، ضاحكا من التصريحات التي يلقيها جهابذة الفساد ، الخاسر الوحيد من هذا الحراك ، من أن هذا التظاهر مدفوع الثمن ، صهيونيا وخليجيا وأمريكيا وغيرها مما تفتقت عنها عقلياتهم المريضة ، تندّرت وولدي على هذه الأقاويل قائلا : (بنيّ ، هل إتصل بك الموساد ، هل أوعز إليك الأمريكان أو الخليجيون للمشاركة في التظاهر ؟!) ، فرغم المحك الجلل ، لم تختلط علينا الصور والثوابت ، ولا زلنا نميز الخبيث من الطيب ، والعدو من الصديق ، فمن ثوابتنا أن إسرائيل تبقى عدوّة ، وما كنا عرفنا (شكولات) حاكمينا لولا المحتل الأمريكي رأس المشاكل ، ونحن نرى شباب يواجه حرب إبادة من قبل بلطجية السكاكين والسلاح ، الطرف الثالث الذي لم تفصح عنه جهة حكومية أمنية واحدة وكأنها خلت من رجال ينطقون بالحق ويتحلّون بالصدق ، وصلنا للساحة ، ربما طمعا في (كارت موبايل أبو العشرة) كرشوة من جهة مجهولة تريد بالعراق شرّا ، نتعاطاها لأجل الإستمرار في التظاهر على حد قول السيد (عبدالكريم خلف) ! .
كنت أنظر لوجوه الشباب المُعتصم ، أرى فيها الوقار المشرّب بالمرح والتفاؤل والإيثار بأعلى صوره ، كنت أنظر لكل واحد منهم ، على إنه رئيس للبلد ، وليست كالوجوه العابسة المكفهرّة التي دأبت على حكمنا منذ الأزل ، الكثير منهم كان منهمكا بإعداد وجبات الغداء التي تكفي لإطعام أحياء سكنية بكاملها ، نساء يعددن الخبز ، فئة منكبة على التنظيف ، مجموعة من الحلّاقين تقص الشعر ، الشاي والطعام في كل مكان ، خيم الطبابة ، مواكب حسينية تصدح (باللطميات) ، جعلوا منها دور إستراحة ، تقدم لروادها ما تشتهي النفس ، وبكل ممنونية وترحيب ، وعلى جسر الجمهورية ، هنالك الأبطال المتصدين للقنابل الدخانية ، و(التكاتك) تصول وتجول حاملة الدعم اللوجستي للمتظاهرين ، تخترق الشوارع المزدانة بصور تحيط بها الزهور لمئات الشهداء ، لا أدري لِمَ غلب عليّ الشعور بالإعتزاز على الحزن لهذا المنظر .
لفترة قريبة ، كنا نتمنى أن يحترق البلد بأهله ، بعد أن بلغ بنا الملل والإنكفاء والهزيمة مداها ، لا لشيء ، بل لتحترق معنا الطبقة السياسية ، بكل ذيولها وإمّعاتها ، لكن معايشة ساحة التحرير ، أعادت لنا الأمل والشعور بالإعتزاز ، والفخر بالإنتماء ، مفردات كنا قد نسيناها منذ زمن طويل ، لم نجدها إلى في كُتُب كانت قد فُرِضَت علينا كثقافة سقيمة مثل غلظة طعام المسجونين ، لم تُصبنا إلا بعسر الهضم العقلي ، وها نحن قد تلقينا دروسا من مدرسة محو الأمّية الوطنية ، في ساحة التحرير ، أعادت لنا التفاؤل والفخر بعبارة (أنا عراقي) .