لابد لأقلامنا المستقلة أن تكتب للتاريخ، ومن باب الأمانة والتوثيق في سجلاته عن شخصيات وعوائل قدمت جهودًا كبيرة لخدمة هذا البلد من أجل النهوض به إلى مصاف الدول المتقدمة، وهذا كله يعود بالأساس إلى التقدم الذي حصل في مجال العلم والمعرفة لأنه النواة الحقيقية لبناء مجتمع صحيح. فالعلم اليوم هو أقوى وسيلة استطاع من خلالها الإنسان أن يبني هذا المستقبل العلمي الباهر وبفضله نرى كل الصناعات الحديثة وكل ما وصلنا إليه في زمن العصرنة التكنولوجية الحديثة.
لقد كان العرب خير أمة أخرجت للناس لأنهم كانوا أصحاب علوم ومعرفة، وكانت دول العالم بمشارقها ومغاربها تأتي إليهم لتنهل من العلوم التي كتبها علماؤهم والتي وصلت إلينا عبر التاريخ وما زالت مؤلفاتهم ضمن مناهج التدريس في كبرى الجامعات العالمية لأنها أساس كل علوم الحياة.
وهكذا كانت أستاذتنا الفاضلة ساجدة منصور عسكر الجبوري التي تنتمي إلى إحد العوائل العلمية الكبيرة في محافظة نينوى، والتي تتميز بشهادات أبنائها وبناتها الذين تركوا بصمة كبيرة في مجال الشهادات الأكاديمية.
كانت عائلة السيدة ساجدة تسكن في مناطق جنوب الموصل، ولكنها قررت الانتقال للسكن داخل المدينة منذ ستينات القرن الماضي، وللحرص الشديد الموجود لدى الآباء والأمهات توجه أبناء هذه العائلة الكريمة لطلب العلم في مدارس مدينة الموصل، وكانوا من المتفوقين في كل مراحلهم الدراسية حتى حصلوا على أعلى المعدلات في ذلك الزمان، وكانت إحدى أفراد هذه العائلة الست ساجدة العسكر، وبمتابعة لدروسها وبتفوق مميز استطاعت الدخول للدراسة في إحدى الكليات التربوية واجتازتها بنجاح في حينها لتتوجه إلى مهنة التدريس في متوسطات وإعداديات محافظة نينوى، وقد تركت بصمة كبيرة في كل المدارس التي قامت بالتدريس فيها، وخاصة عندما عملت في مجال إدارة هذه المدارس، وما زالت سجلات الإدارة لتلك المدارس تكتب اسمها في مقدمة المدراء الذين عملوا في هذا المجال، وقد تخرج من تحت ايديها الآلاف من الطالبات اللاتي يقودن اليوم المجتمع ويشاركن في كل مجالات الحياة الوظيفية، فأينما تذهب تجد إحدى طالباتها وهي تؤدي عملها في أحد المجالات الحيوية المهمة كالطب والهندسة والإدارة وكل مفاصل الدولة الوظيفية.
ولابد لنا هنا أن نشير إلى إحدى المهام التي استلمتها في وظائفها الإدارية عند استلامها لمهمة مديرة معهد إعداد المعلمات في الموصل، وكانت تلك المرحلة مرحلة حساسة جدًا وذلك لحاجة البلد إلى الكوادر التعليمية، وخاصة عندما كان المعلم يعتبر الركيزة الأساسية لبناء مجتمع صحيح، فلقد تخرجت من هذا المعهد الآلاف من المعلمات اللاتي ساهمن في تأدية الأمانة في القرى والأرياف والمدينة، وكل ذلك كان بفضل الإدارة الناجحة والقوية للست ساجدة منصور العسكر. إن المهنة الوظيفية في التدريس من وجهة نظر الست ساجدة كانت تعتبر أمانة لابد من أدائها، وكذلك لابد من أن يكون الطموح دوما الى الوصول الى اعلى درجات النجاح ، ويذكر الجميع من معارفها وطلابها وأقاربها تميزها بالتشدد في مجال التعليم وعدم تقبلها لمبدأ مساعدة الطالب ونجاحه بدون استحقاق، وهذا ما يشيد به كل الكوادر التربوية التي عملت معها وكل المدراء العامين لتربية محافظة نينوى الذين كانوا في ذلك الوقت.
نعم، إن هناك نساء خدمنا المجتمع وسوف يخلدهن التاريخ، وقد تعادل إحداهن ألف رجل من الذين لم يقدموا أي شيء سوى التعلق والتشبث بمفاهيم دنيوية بعيدة عن الواقع.
وبعد أن أدت استاذتنا الفاضلة كل واجباتها ومهامها التربوية وبعد خدمة دامت أكثر من 30 سنة تقريبًا تمت إحالتها للتقاعد، وما زالت إرشاداتها ونصائحها موجودة في القطاع التربوي بشكل عام.
نتمنى لها الصحة والعافية والعمر المديد إن شاء الله، فهكذا شخصيات ثقافية لابد أن نذكرها في كل مجالسنا العامة والخاصة، ولابد أن نكتب عنها كلما نعرفه من معلومات لتوثيق سيرة حياتها ومن باب الأمانة التاريخية، وسوف تبقى نساء العراق رايات خفاقة مشاركة أخاها الرجل في كل مجالات وجوانب الحياة الاجتماعية.