27 يوليو، 2025 10:21 ص

سائقٌ بالصدفة… ورفيقُ الغبن

سائقٌ بالصدفة… ورفيقُ الغبن

لم يكن يوماً سائقَ أجرة، ولم يحفظ خريطةً ولا شارعًا ولا التواءات الزوايا في المدن المكتظة ؛ لكنه، وفي نوبة من النشوة أو الهروب ، قرر ذات ليلة أن يصبح “سائق تكسي”… ؛ لا تخطيط، لا تدريب، فقط بضع كؤوس من نبيذٍ قديم، واندفاعٌ غريب إلى شوارع بغداد في منتصف الليل، كأن شيئاً في صدره يريد أن يتنفس من صدور الغرباء…

انطلقت السيارة المرتبكة في الأزقة ، تدور بلا هدف، تتلمس أنفاس المدينة، حتى رفع شابٌ يديه له من بعيد، فأوقف السيارة عنده وسأله : “إلى أين؟”

أجابه الشاب بصوت مبحوح: “إلى الزعفرانية.”

لم يسأله عن الأجرة، ولم يساوم كما يفعل سائقو الليل، بل فتح له الباب بصمت، وصعد الشاب ذو الثمانية عشر ربيعًا… ؛ كان حسن المظهر , جميل المحيا ، نقي القسمات , باسم الثغرات ، لكن التعب أكل من وجهه، والسهر سكب حمرةً في عينيه، كأنما هو خارج من حرب مع الأيام…

سار الرجل يقود السيارة ببطء، والتفت إليه متسائلًا:

ــ “تبدو مرهقًا، ما قصتك؟”

أجابه الشاب بنبرة خافتة:

ــ “خرجت منذ الفجر أعمل في مهنة البناء – ( العمالة ) – ، ثم ذهبت بعد الظهر لهدم مرحاض قديم في بيت خالتي بمدينة الصدر… ؛ عملٌ تطوعي، فهم فقراء، وأنا لا أملك إلا ساعدي… ؛ والآن أعود إلى بيتنا المستأجر في الزعفرانية… ؛ كنا في حي العبيدي، لكن صاحب الدار رفع الإيجار، فرحلنا.”

صمت السائق قليلًا، ثم قال:

ــ “لكن… لماذا اخترت مهنة العمالة؟ ألا يوجد عملٌ أهون عليك؟”

قال الشاب:

ــ “لم أكمل دراستي، وكنت أعمل حمالًا في الشورجة، لكن الركود قتل السوق، وازداد عدد الحمالين… ؛ ثم عملت في فندق بأجرة محترمة، لكن صاحب الفندق راودني عن نفسي… فهربت.”

استدار السائق نحوه بانفعال كظيم، فتابع الشاب:

ــ “ثم عملت في كوفي شوب ببغداد الجديدة، لكن صاحب المكان طلب مني أن أدخن النارجيلة، وعندما رفضت، صار يقنعني بضرورة التدخين ؛ والقصد من الحاحه علي ؛ الادمان لا غير , فهو يضع المخدرات في المعسل وبحجة تدخين النارجيلة ؛ يدس السم الزعاف بالعسل ؛ حتى أدمن على المخدرات , وأصبح عبدًا عنده بلا أجر، كما فعل مع كثيرين… ؛ شباب مثل الورود ذبلوا تحت تأثير المخدرات التي كان يضعها لهم في بداية الامر في النارجيلة …!!

ثم تنفس الشاب تنهيدة طويلة، كأنها عمرٌ ثقيل، وأضاف:

ــ “وفي إحدى المحلات التجارية طلب مني صاحبها أن أحلق شعرجسمي كلّه، فلما سألته: لماذا؟ قال: أريدك زوجًة لي … ؛ أتكفل بك واصرف عليك ، و تنام في حضني وتعيش من مالي…!!

فصرخت به: أنا رجل، ولست رخيصًا … ؛ وتركت كل شيء، وجلست في البيت لعدة اشهر ؛ حتى جاءتني فكرة العمل بمهنة العمالة، مع ما فيها من تعب وارهاق ، لكنها أشرف من السقوط والاستغلال الجنسي .”

وصلت السيارة إلى الزعفرانية. نزل الشاب مطأطئ الرأس، ثم التفت إلى السائق وسأله: ــ “كم الأجرة؟”

فقال السائق بصوت خفيض:ــ “اقترب.”

اقترب الشاب، فمدّ له السائق ورقة نقدية من فئة خمسين ألفًا.

تجمد الشاب لحظة، وحدّق فيه، ثم التقت نظراتهما وامتلأت أعينهما بدمعٍ ثقيل…

كلاهما كان يرى في الآخر مرآةً لوجعه، ظلًّا لغربته، وندبةً من ذات الجرح…

أدار الشاب وجهه ومضى في عتمة الحي، بينما عاد “السائق الطارئ” يدور بسيارته في شوارع المدينة… ؛ لا ليبحث عن راكبٍ جديد، بل لعله يعثر على شيءٍ من روحه المفقودة في وجوه الغرباء…

أحدث المقالات

أحدث المقالات