23 ديسمبر، 2024 5:04 ص

(سائرون) خُدعة أم وهم ؟

(سائرون) خُدعة أم وهم ؟

أعادت حملة التيار الصدري واستعراضاته في الميادين العامة في بغداد وبعض المحافظات بالدعوة الى الانتخابات التشريعية المبكرة المزمع اجراؤها في حزيران 2021 والتلويح بحصوله على أعلى المقاعد في البرلمان المقبل ما يؤهله للفوز بمنصب رئيس الوزراء للحكومة القادمة ,اقترنت الحملة بالنيل من المدنيين والشيوعيين واتهامهم بالخيانة عبر تغريدات السيد مقتدى الصدر على تويتر , أعادت الحملة الجدل من جديد حول الظروف التي دعت الى تشكيل تحالف (سائرون ) في انتخابات 2018 وانضواء قوى وشخصيات مدنية والحزب الشيوعي العراقي تحت مظلته وما حققه التحالف بحصوله على أعلى المقاعد (56 مقعدا ),لقد كانت مشاركة قاعدة التيار الصدري في الحركة الاحتجاجية منذ 2015 التي بلغت ذروتها في التصعيد الاحتجاجي ضد حكومة العبادي ونظام المحاصصة الذي تمثله المؤسسة التشريعية بعبور جسر الجمهورية واقتحام المنطقة الخضراء والتسلل الى مبنى البرلمان 2016 ,دون أن يسفر التصعيد عن نتائج ملموسة لتعديل مسار العملية السياسية او النهوض بقطاع الخدمات أو توجيه عمل البرلمان لصالح اقرار حزمة اصلاحات ومراجعات جادة في عمل مؤسسات الدولة, رغم فشل نظام المحاصصة لسنوات عديدة في مكافحة الفساد وعجز الحكومات السابقة عن الايفاء بالتزاماتها , ولا يبدو أن التيار الصدري كان معنيا بمناهضة نظام المحاصصة والفساد اذ كان جزءا منه وشغل وزارات خدمية ( حوالي 25 وزارة حتى الآن ) ودرجات خاصة ومديريات عامة دون أن يقدم دليلا على تمايزه في الأداء والمنجز المتحقق , ومع بدء التوجه لإجراء الانتخابات في 2018 كان واضحا أن قوى التيار الاسلامي بشقيه السني والشيعي وقد أدركت عقم محاولتها الهيمنة في المجال السياسي استنادا الى مرجعياتها الفكرية وأساليبها السابقة عمدت الى تغيير خطابها والظهور بعناوين مدنية ,وفي ظلال هذا المسعى كان التقارب المدني – الصدري الذي كتب عنه باحثون ومدونون ما يشير الى تبلور ما سمي في حينه (الكتلة التاريخية ) باعتبار أن ما يوحد التيارين في الأساس هو التركيبة الاجتماعية الطبقية حيث يحوز الصدريون على مساندة ودعم حزام الفقر في عدد من المدن العراقية بينما لا يعبرون في خطابهم السياسي عن الانحياز الحقيقي لمعاناة الفقراء والمهمشين ولم يسعوا الى حل معقول لمشكلة البطالة المليونية ,ولم يتقدموا بمبادرات بناءة للنهوض بقطاع الخدمات ,رغم اشغالهم وزارات خدمية في قطاعات الصحة والإسكان والبلديات والشؤون الاجتماعية والكهرباء ,بل أنهم انخرطوا في لعبة المحاصصة التي يتبرأون منها جهارا ويمارسونها في كواليس السلطة ,ولعلنا نتذكر أن بعض الكتاب اليساريين وقد استخف بهم الطرب جنحوا الى تشبيه التحالف الانتخابي لسائرون وكأنه صورة أخرى من صور التحالف أو الحوار بين قوى اليسار والكنيسة في بعض بلدان امريكا اللاتينية ,حيث تتعالى موجة لاهوت التحرير التي يقودها قساوسة كاثوليك في النضال من أجل العدالة الاجتماعية والانحياز للفقراء ومعاداة الدكتاتورية والتبعية للرأسمال الأمريكي ,وما ينبغي وضعه في الحسبان أن اللاهوت المسيحي بوجه عام قطع شوطا بعيدا في المصالحة مع الحداثة والانفتاح على قيمها وفضاءاتها منذ المجمع الكنسي الثاني في أواسط الستينات ,ثم حدثت تغيرات وتحولات فكرية في الأوساط الكنسية (في أمريكا اللاتينية خاصة )مع تنامي الحركات الثورية والاجتماعية التقدمية ما أنتج حركة لاهوت التحرير في بوليفيا ونيكاراغوا وغيرها ,بينما ظل اللاهوت الإسلامي يتسم بالاجترار والتكرار لما كان يدور في مناخ القرون الوسطى ومازال يتلقى ايحاءات وأفكار السلف غير الصالحة لزماننا العاصف ,ما انعكس على خطاب الحركات الاسلامية السنية والشيعية على السواء ,والتيار الصدري الذي تشكل في ما بعد سقوط الدكتاتورية 2003 يتسم بالتشدد والتمترس في الدرس الفقهي التقليدي ,رغم ظهوره المتأخر وقياداته الشابة ,وعرف عنه عداؤه للغربنة والتحديث وتحرر المرأة والاختلاط بين الجنسين ,ولعلنا نتذكر غاراتهم على الحرم الجامعي في بغداد والبصرة وتجاوزاتهم على الحريات العامة , واذا كانت القاعدة الاجتماعية للتيار الصدري من الفقراء والمهمشين فإنهم لم يبذلوا من الجهود والامكانات ما يخفف عنهم وطأة الفقر والحرمان ,وتتزايد معدلات الفقر في بغداد والمحافظات عدا كردستان على نحو مخيف ,وما زالت أحياء الصفيح والأنقاض التي لا تتوفر فيها شروط العيش الانساني تملأ بغداد والمحافظات الجنوبية وهم من يشكلون خزان التصويت في مواسم الانتخابات المحلية والبرلمانية ,بينما يقيم ممثلوهم في البرلمان والحكومة في أرقى الأحياء وبنمط حياة باذخ الرفاهية والثراء ناهيك عن اولئك الذين استأثروا بفرص الإثراء السريع عبر المنافذ الحدودية والموانىء والمطارات والمشاريع الوهمية والمناقصات الكبرى وعقود التعيين ,وستجد نماذج صارخة على هذا الثراء المحمي بسلاح المليشيا ومنطق اللا دولة متمثلة في أسواق كبرى (مولات ) ومحطات وقود عملاقة وعقارات ومعارض سيارات وشركات وأرصدة في الداخل والخارج ,لا يختلف الصدريون عن سواهم في التيارات والاحزاب الشيعية في الإنغمار في كرنفال الفساد والمحاصصة ,بل أنهم وبقوة سلاحهم المنفلت لا يتورعون عن اسكات دعاوى التحقيق والمتابعة لملفات أنصارهم ,فمن يجرؤ على مساءلة علي التميمي وبهاء الأعرجي وكاظم العيساوي وجواد الكرعاوي وناجي المرياني وغيرهم ؟ ومن يجرؤ على مساءلة من باع أراضي الدولة في بغداد ؟ومن يجرؤ على فتح ملفات هدر المال العام وسوء الإدارة في الوزارات التي تسلم مسؤوليتها الصدريون ؟ محكمة (الحنانة ) وحدها المخولة بالنظر في جرائم الفساد وتسويتها بالتراضي بعد دفع ( المقسوم ) كما لو أنه من ( الحقوق الشرعية ) الواجب على المؤمن المكلف دفعها الى المؤسسة الدينية وإن كانت من الأموال المسروقة ….لقد كان تحالف (سائرون ) ثمرة استدارة التيار الصدري نحو القوى المدنية بعد أن أدرك أن تجربة وأداء كتلة الأحرار في البرلمان والحكومة لا تخنلف عن سواها عن تيارات وأجزاب التحالف الشيعي ,ولتمهيد الأمر انبثقت صيغة حزب (الاستقامة ) المدعوم من السيد مقتدى الصدر ولم يظهر في هيئته المؤسسة وفعالياته أي من رموز التيار وكوادره بادىء الأمر وتبوأ الدكتور حسن العاقولي استاذ الطب في جامعة الكوفة موقع رئيس التحالف المذكور ,وما أن بدأ السياق الانتخابي حتى عملت الماكينة الانتخابية على اخراج وجوه صدرية في بغداد والمحافظات الجنوبية ,حتى تكلل المسعى بفوز تحالف سائرون بقصب السبق بين القوائم الانتخابية ,وعند بدء المفاوضات لتشكيل الحكومة ظهر صقور التيار ليتولوا ادارة ملف توزيع الغنائم في سياق محاصصة لم تكتف بكابينة الحكومة بل امتدت الى مؤسسات الدولة في بغداد والمحافظات الجنوبية وقد شغلوا مراكز هامة في حكومة عادل عبد المهدي التي اتسمت بالتبعية للراعي الايراني ونفوذ فيلق القدس ومحور (المقاومة ) في تشكيلتها بدءا من مدير مكتبه الى قائد المنطقة الخضراء وانتهت الى ما انتهت اليه من اغراق انتفاضة تشرين الوطنية بالدماء عبر ما دُعي بالطرف الثالث او قوى غير منظورة لم يجر كشفها حتى الآن ,بينما كان الصدريون يشغلون ومازالوا أمانة مجلس الوزراء اضافة الى اشغالهم وزارات أخرى … ليست هي المرة الأولى التي يمارس فيها الصدريون الخداع والتمويه خلال مسيرة أعوام ما بعد 2003 ,فمرة يقدمون أنفسهم جناحا للمقاومة المسلحة ضد المحتل تحت عنوان ( جيش المهدي ) حيث كان ذراعا لفيلق القدس الايراني , وارتكبوا فيها انتهاكات وأعمال قتل ضد العراقيين من النساء والمترجمين والناشطين في المجتمع المدني وهم أضعاف ما خسرته قوات الاحتلال مادياً وبشرياً في معاركهم الاستعراضية التي ختمت بصولة الفرسان في ربيع العام 2008 , حيث تحقق لنوري المالكي رئيس الوزراء آنذاك بمساعدة عسكرية أمريكية من الحاق الهزيمة بهم واعتقال المتورطين بعمليات القتل والاثراء غير المشروع ثم تفكيك جيش المهدي بدعوة صريحة من مقتدى الصدر ,ومرة أخرى يتقمص الصدريون خطاب (المشروع الوطني ) العابر للتحيزات المذهبية الضيقة والخروج على التحالف الشيعي ,ما أوهم الكرد وحكام دول الخليج (قطر ,السعودية ,الامارات ) ليتحصلوا على مكاسب مادية وسياسية من بينها طائرة خاصة واسطول من سيارات الدفع الرباعي غالية الثمن لزعيم التيار مقتدى الصدر ,لقد تفنن قادة التيار في صياغة الخطابات المنمقة والمشاريع الملفقة تبعا للمواسم ومراحل العملية السياسية وهم ثلة من الشباب الطامحين ( بينهم أكاديميون وتكنوقراط ) واللصوص المحترفين تعاونهم ماكنة انتخابية قادرة على قيادة حملات انتخابية ناجحة وجهاز من القتلة المتمرسين بالقتل وارتكاب الجرائم في وضح النهار في بغداد والجنوب يذكر بمجرمي منظمة حنين التابعة لحزب البعث في أعوام الستينات والسبعينات, ولن تنسى قصص الرعب التي اجترحها أبو درع وأبو سيف وأبو قادر وغيرهم من المحسوبين على التيار الصدري في الإغارة على الأحياء السنية و(اصطياد )أبنائها ابان فترة العنف الطائفي …
***************
سأل الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (61-101 هج) التابعي الفقيه الحسن البصري : بمن أستعين على الحكم يا بصري ؟
فأجاب الفقيه :
أما أهل الدنيا فلا حاجة بك اليهم ,وأما أهل الدين فلا حاجة بهم اليك .
فتعجّب الخليفة وقال : فبمن أستعين اذن ؟
فرد الفقيه : عليك بأهل الشرف فإن شرفهم يمنعهم من الخيانة
من غرائب الزمان أن أهل الدين في عراق القرن الخامس عشر الهجري زاحموا أهل الدنيا فلم يدعوا مغنما إلا اغتنموه ولا ثغرة الا نفذوا من خلالها , وهم يجثمون على صدور العباد مثل كوابيس ثقيلة تأبى الانزياح , وصار ثراؤهم واستهتارهم بمصالح الشعب وحقوقه وجهلهم واستبدادهم مضرب المثل في ما يتداوله الناس ,أما أهل الشرف والوطنية ففي موضع الاستبعاد والاتهام والنبذ .