23 ديسمبر، 2024 7:22 ص

زيارة كيري الثانية لإجهاض الانتفاضة

زيارة كيري الثانية لإجهاض الانتفاضة

جاء جون كيري إلى لقاء نتنياهو ومن قبله محمود عباس بعد أسبوع من اندلاع الانتفاضة الثالثة. ولم يستطع أن يعقد اجتماعا رباعيا في عمّان يضمّه ونتنياهو والعاهل الأردني والرئيس محمود عباس، فوجد أن أفضل ما يمكن أن يعمل لإجهاض الانتفاضة هو إعلان ما عُرِفَ باسم تفاهمات كيري- نتنياهو. وقد تضمنت تأكيد نتنياهو على عدم تغيير الواقع القائم في المسجد الأقصى (وأسماه جون كيري “جبل الهيكل”)، بما يعني التراجع عن تنفيذ قرار حكومة نتنياهو باقتسام الصلاة فيه. وكان في ذلك نصر تحققه الانتفاضة. ولكن تلك التفاهمات حافظت على إبقاء السلطة الأمنية الصهيونية في المسجد الأقصى ولا سيما الإشراف على زيارة غير المسلمين، وأضافت وضع كاميرات مراقبة أراد منها كيري ونتنياهو أن تكون رصدا للشباب والشابات من حماة المسجد الأقصى.

كان الهدف الأول من هذه التفاهمات بأن تتوقف الانتفاضة ما دام التراجع عن الاقتسام الزماني للصلاة في المسجد الأقصى قد تحقق. وذلك باعتباره السبب المباشر الذي أطلق الحراك الشعبي ضدّه. وقد أخذ يتحوّل إلى انتفاضة.

لقد فشلت هذه التفاهمات في تحقيق هدفها لسببين الأول: حافظت على السيطرة الأمنية للجيش الصهيوني على المسجد الأقصى والإشراف على زيارة غير المسلمين له. وهؤلاء هم العصابات الصهيونية التي تقتحم المسجد الأقصى بحماية جيش العدو من أجل فرض التقسيم الزماني فالمكاني للصلاة فيه أي للمسلمين واليهود. أما السبب الثاني فيرجع إلى أن أهداف هذه الانتفاضة حملت أهدافا تتعدّى هدف إحباط قرار التقسيم الزماني للصلاة في المسجد الأقصى، بالرغم من أهميته الشديدة.

وهذه الأهداف هي: دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات عن القدس والضفة الغربية وفك الحصار عن قطاع غزة وإطلاق كل الأسرى، وبلا قيد أو شرط، أي لا مفاوضات، ولا صلح ولا اعتراف (اللاءات الثلاث).

وهي أهداف آنية يمكن للانتفاضة أن تحققها إذا ما تحوّلت إلى انتفاضة شاملة، ومتواصلة، وممتدّة، ولا تراجع عنها، حتى يُجبَر العدو على الانسحاب وتفكيك المستوطنات. وذلك بأن نجعل الانسحاب أقل كلفة عليه من الاستمرار في الاحتلال والاستيطان وقمع الانتفاضة.

لا العدو الصهيوني، ولا أمريكا ولا أوروبا (حلفاؤه) يستطيعون تحمّل مواجهة انتفاضة شاملة، ومصمّمة، وطويلة الأمد، وتحت وحدة وطنية وراية واحدة. لأنها ستحرّك معها إذا ما ثبتت، وتواصلت، الجماهير العربية والإسلامية ورأيا عاما عالميا. الأمر الذي سيُحرج كل حكومة حاولت تجاهل الانتفاضة أو تواطأت لإيقافها، أو راحت تدعم حكومة نتنياهو تحت دعوى “حق الدفاع عن النفس” كما أعلن أوباما وغيره من قيادات غربية.

لقد انحرفت بوصلة النضال الفلسطيني حين جعلت هدفها الأول هو إقامة دولة فلسطينية على “حدود ما قبل الخامس من حزيران 1967”. الأمر الذي أدخلها في استراتيجية التسوية والتفاوض على حل نهائي للقضية الفلسطينية (حلّ الدولتين). وهنا أثبتت تجربة مفاوضات مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو ومفاوضات محمود عباس باسم سلطة، وم.ت.ف أن هذا الطريق فاشل قطعا، وكارثي وقد استشرى في ظله الاستيطان وتهويد القدس والاعتداء على المسجد الأقصى، والبطش بالأسرى، وقمع المقاومة والحراك الشعبي. وشنّ الحروب العدوانية على لبنان وقطاع غزة وحصار القطاع حصارا خانقا. بل أسهم في إبعاد القضية الفلسطينية من أن تكون في أولوية القضايا عربيا وإسلاميا وعالميا. وهذا كله ما لا جدال فيه أمام تجربة الأربعة وعشرين سنة الماضية من مفاوضات مدريد حتى اليوم.

إن إبقاء الباب مفتوحا أمام “حلّ الدولتين” هو الذي يسمح لجون كيري وزير خارجية أمريكا أن يأتي إلى فلسطين المحتلة اليوم ليطرح من جديد اقتراحات تمهّد لجولة جديدة من المفاوضات من أجل إجهاض الانتفاضة وخوفا على الكيان الصهيوني من أن ينهزم أمامها وخوفا على أمريكا والغرب من أن يزيدا افتضاحا في دعم الكيان الصهيوني وهو يرتكب المجازر بحق الشعب الفلسطيني.

ولكن كيري إذا فوجئ بموقف فلسطيني موحّد بأن هذه الانتفاضة تريد دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وبلا قيد أو شرط، وبعد ذلك لكل حادثٍ حديث. فسوف لا يجد عنده ما يقوله فهو لا يستطيع أن يناقش في احتلال واستيطان ملتزم بأنهما غير شرعيين. وهنا يجب أن يُحشرَ في الزاوية.

ويُعلن موقفا بأنه يدافع عن الاحتلال والاستيطان أو يريد أن يكافئها بتقديم تنازلات فلسطينية وعربية وإسلامية.

هنا تصبح المعادلة غير معادلة المفاوضات حلٍ للقضية الفلسطينية من خلال “حلّ الدولتين” التصفوي والوهمي، والذي يشكل غطاء للاحتلال والاستيطان وتهويد القدس وحصار قطاع غزة وعدم إطلاق الأسرى. وذلك حين يربط دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وقضايا القدس والمسجد الأقصى وقطاع غزة والأسرى بالتوصل إلى الحلّ النهائي عبر المفاوضات. أو يربطها بإعطاء الأولوية لإقامة الدولة الفلسطينية. فالحالة هنا تشبه وضع العربة أمام الحصان.

أما ماذا سنفعل بعد تحرير الأرض فيُتْرَك لاستفتاء الشعب فالخيارات متعددّة.

وليتأكد كل من يتحدث عن المشروع الوطني الفلسطيني بأن لا حلّ لقضية فلسطين إلاّ حلّ تحرير فلسطين من النهر إلى البحر وتنفيذ حق العودة. ولهذا من الخطأ طرح أي مشروع آخر مثل حلّ الدولتين أو دولة ثنائية القومية، أو دولة فلسطينية على حدود 67.

هذا وليتأكد كل من يهمه إنقاذ المسجد الأقصى والمقدسّات الإسلامية والمسيحية ويهمّه تحرير القدس والضفة وفك الحصار عن قطاع غزة وإطلاق كل الأسرى، والسير بعد ذلك قدما في طريق تحرير كل فلسطين بأن ليس هنالك أقوى وأصّح من جعل الأهداف الراهنة للانتفاضة والنضال الفلسطيني بعامّة هي: دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وفك الحصار عن قطاع غزة وإطلاق الأسرى. وهي أهداف يمكن أن تتحدّ عليها كل الفصائل الفلسطينية، ويمكن أن تحققها هذه الانتفاضة.

وليُجرّب محمود عباس أن يُواجِه جون كيري بها، وسيجده غير قادر على مواجهتها، وسيهرب إلى المفاوضات وحلّ الدولتين. وعندئذ ليجرّب أن يقول له إذا ستستمر هذه الانتفاضة، وإلاّ سيستمر الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس وانتهاكات المسجد الأقصى. وهذا ما حصل بعد وقف الانتفاضة الثانية. ومن يجرّب المجرّب عقله مخرّب.

طبعا محمود عباس لن يفعلها. ولكن يجب على فتح والفصائل التي أيّدت يوما طريق المفاوضات والتسوية وحلّ الدولتين أن يفعلوها، بالطبع إلى جانب حماس والجهاد وشباب وشابات الانتفاضة. فجون كيري يجب أن يعود فاشلا من محاولة إجهاض الانتفاضة.