“لأني أحبك”!
قالها حسّان وهو يمضي على فرسه، واعداً حبيبته زمرد بالبقاء وعدم التراجع والاستمرار في الدفاع عن الأرض التي يكاد العدو ينتهي من قضمها بسرعة بالغة…
كان صباحاً مليئاً بالظلام، وربيعاً خريفيّ الروح!
كفكفت زمرد التي تبلغ من العمر ثمانمائة عام دمعها، وأقفلت على قلبها الذي بدأ ينبض بإشفاق بمفتاح ثقيل، ونادته ” موعدنا عند القنطرة” فلا تنسى!
وانطلق حسّان والذي كان فارساً مهاباً، رقيق الشعور كما هي عادة أبناء الأندلس، قويّ الإيمان مثل اجداده، وظل كل يومه يجوب الدروب حامياً إياها مع ثلة المرابطين، هو هكذا منذ قرون، لا ينام الليل، وكله قلق على أسوار مدينته ان يجرفها التيار وقد ازداد قوة ولم يعد إلا القليل أمامه!!
وحين لمحت طيفه من بعيد في مساء ذات اليوم، رأته وقد نال التعب منه مبلغه، فخاطبته:
” أرى العدو أنهك قوتكم” ؟
” من؟ وهل يجرؤ؟ لم ينهكنا يا حبيبتي سوى الانقسام!!”
وطال نظره إلى منظر القنطرة العظيمة وهي حزينة، ولكن عينيه تحمل بريقاً لم تعهده فيها من قبل.. فسألته بابتسام ” حسّان؟ أين ذهبت؟”
“اسمعي سأقول لك شيئاً ولا تعتبريه هلوسة محارب متعب.. اتفقنا؟!”
” هيا قل…”
” لقد رأيت طارقاً اليوم!”
” أي طارق؟!”
” ابن زياد ومن غيره..”
” حسّان لقد بدأت أقلق عليك، كيف رأيته وبينك وبينه أكثر من 700 سنة؟!!
” لقد كان معي، صدقيني، لمحته بين الجنود، أتصدقين، لقد كان كما وصفه المؤرخون، شامخاً، نقياً، مؤمناً، لقد قال لي لن تنتصرون إلا بان يرابط الشعب معكم، وتحملون الايمان بالله فليس سواه السلاح!..
أتعلمين.. لقد أوصاني بالسلام على أبي عبيدة ورفاقه، وأن اتلوا عليهم ختام سورة آل عمران ففيها النجاة والنصر وهم باذن الله منصورون!”
” من هؤلاء الذين تتحدث عنهم، أي أبو عبيدة؟!
” ألا تعرفين أبا عبيدة، إنه رمز فلسطين اليوم، وهو روح غزة، بل وقلب الأمة، غزة تلك المدينة الصغيرة لكنها الصلبة في صبرها العنيدة في عنفوانها، وحين أنظر إلى ما تعاني أجدها تشبه بلنسية وإشبيلية وقرطبة العزة والعز، للعلم هم يسمونها كذلك غزة العزة!!
“ولكن مدننا التي ذكرت سقطت وخارت قواها؟”
“صحيح، ويبدو أنهم تعلموا الدرس، فهم ما زالوا يلقنون العدو ألف درس في البسالة، وهم يعيدون كتابة التاريخ مجدداً فيزيلون كل صور الخذلان!”
” لم أعد أفهم منك شيئاً، كلمني عن قشتالة اين وصل بهم المقام؟!”
” والله يا زمرد هم يتقدمون، يستولون على الأندلس قطعة قطعة ولو بقيت علينا لقدمنا ارواحنا من اجل النصر، لكنها معادلة صعبة، لعل أبا عبيدة يبشرنا بالنصر القريب!!”
” هل عدت لأبي عبيدة صاحبك؟”
” تذكري وصية طارق يا سلمى، الأمل بالشعب لا غير، وانظري إلى القوم هنا وهناك ما زالوا يلتقون كلقاءات زعماء الطوائف، يساومون على الأرض، يعرضون كل شيء للبيع، والثمن بخس مهما غلا، وهل هناك ثمن للدين والهوية والأرض؟! عجبت لهم!”
…………………………………………………………
…………………………………………………………
وحين انتصف الليل وساد السكون ورقدت الأنفس المقيدة بالغيوم الكالحات، انطلق حسان مجدداً على فرسه، كانت الطائرات تحوم فوق رأسه، وأصوات الانفجارات تلفه لفاً، وبكاء الصغار يصك أذنيه، ولكنه عزم هذه المرة ألا يعود حتى يحقق مراده، وينفذ وصية جده ابن زياد، لذا كان يمضي مبتسماً كأنه يرى الجنة أمامه… وكأن كل خفافيش الظلام قد ابتلعها في لحظة عظيم الاصرار!
“ما بك يا حسّان، لماذا الابتسام؟!”
“إنني أراه يا زمرد أمامي، ألا ترين توهج الضياء؟!
وقطف زهرة أندلسية ونادى: “الوداع .. الوداع!!”
ومضى وهي تركض وراءه منكسرة، يلفّها الظلام، يضيع صوتها وسط جلبة السلاح وقهقهات فرناندو وإيزابيلا، لكن حساناً كان يمضى على درب من ضياء، أمامه الروضة الشريفة والكل يدلّه على موضع السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصورة أبي عبيدة يحمل البشرى تدفعه دفعاً، ونداء الأطفال يمتزج بنداء الصلاة.. وزغاريد أمهات الشهداء النشيد والغناء!
وفي لحظة من بريق غاب عنه منذ زمن، كان يقف راسخاً وقبالته القدس وغزة، عظيم كان المقام، فنثر وقتذاك زهوره وقذف بها إلى السماء، ونادى في القوم: هل من يوصلها إلى أبي عبيدة، هذه زهور اجدادكم يوصونكم ان تعيدوا غرسها وترجعوا لها الحياة فرحيقها هو الزاد، فلا تكرروا المأساة…
ومضت قافلة النور وحولها بركان واعصار وطوفان، عن يمينها ضحايا محاكم التفتيش، مسلمة قضت حرقاً لانها نطقت بالشهادتين وشيخاً قطعت أوصاله لأنه رفض التنازل عن هويته، وألف كتاب وكتاب كان ينير الأرض يوماً وتحول بعدها في رمشة حقد إلى كومة رماد، وعن شمالها أطفال غزة ونساءها ومساجدها، والقافلة تمضي، تضم طارقاً والسمح وضيف والسنوار وهنية وعيّاش والرنتيسي وياسين، وغيرهم لا نعرفهم ولكن الله يعرفهم..
ونورٌ عظيم يلّفها… هو نور سيدي رسول الله.. وصوت رخيم ينادي في الأرض.. }يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{…
مضى الركب…والكل يردد:
اننا على الوعد باقون .. إننا على العهد صامدون.. إننا على الوعد.. إننا على العهد.. باقون.. صامدون!