22 ديسمبر، 2024 3:22 م

زها حديد والمتنبي

زها حديد والمتنبي

الجاهل في الفن يقول : “لماذا دائما (بطل الفلم) عند صانعي السينما لايموت ، ويكون شجاعا او قويا بشكل ملفت” أمر خطأ او مستغرب !. والحقيقة انه امر عادي ومعقول ، فلو كان رجلا مثلي ومثلك ، فلماذا بظنك نسجت حوله قصة وانتج عنه فلم ! وان مات او خسر معاركه فمن سيكمل الفلم ، الامر معكوس وهو “ان هؤلاء و لانهم خارقون واستثنائيون في جانب ما ، فقد اصبحوا ابطال افلام ، واختارهم صانعو السينما البارعون “.
الجاهل في الشعر يقول : “كيف يكون الرجل بهذه الشجاعة التي مجّدها الشاعر ، او بذلك الكرم ، ولماذا يبالغ الشعراء” ؟. والحقيقة ان الامر يبدو لك كذلك لأنهم دائما يختارون ممدوحيهم من المميزين ومعشوقاتهم من الجميلات” عمدا ليبدعوا شعرا عالي الوصف مميز المعاني ،، والا فكيف يكون شعرا !
وكما ان السينمائيين ، ان لم يجدوا بطلا بهذه المواصفات يضطرون لصنع واحد مفترض او متخيل ليصلوا الى غاياتهم من نشر فكرة ما او تاسيس قيمة او تنميتها ، وكذا فان الشعراء ان لم يجدوا نموذجا يستحق التمجيد واسباغ الصفات المدهشة عليه وتسخير البديع من اجله ، و ان لم يجدوا جميلة بمحيا يضاهي البدر وعيون تحاكي الجآذر وخصر يحاكي الظباء ، فسيخترعونها او يعطونها تلك الصفات ظلما ، فلم تكن ليلى جميلة ولم يكن ممدوحهم الفارس خارقا كما تظن ولكنهم مجبورون ، فلمن يقولون الشعر اذن .
فالشعر اذا ساوى المنطق يكون كلاما مرسلا ، واذا التزم وصف الواقع يكون حكاية ممجوجة ، واذا اعطى كل ذي حق حقه ولم يزد عليه اصبح ميزانا عدلا جافا لا روح فيه ولا حس .
وتحتبس في صدور الشعراء الموهوبين معانٍ مختلقة وصور مبتَدعة تملؤها المبالغات وتحلّيها المحسّنات ، وقد لاتعلم ان من اسباب عجز العرب المفوهين عن مجاراة القران هو انه كان النظم البلاغي والابداعي الوحيد-الى الان والى الابد – الذي جمع عجب البلاغة وسحر البيان الى صدق الحديث وعمق الحكمة ووصف الواقع دون تزييف او تزييد . وبهذا تفوّق على الشعراء والأدباء ، بل أعجزهم وحيّرهم ، فهؤلاء ان ابدعوا بالغوا او كذبوا ، وان اقصروا قصّروا ، ولذا فان الشعراء يتبعهم الغاوون ، والقران يتبعه المؤمنون . وكلاهما ابداع بلاغي مع الفارق .
والأحداث تزيدها تاثيرا البديعيات ، فكيف يبثها الشعراء ان كانت احدائا عادية موصوفة ، وكيف يخرج الشعراء ابداعهم و مواهبهم في قياد الالفاظ وتصوير المعاني ان قالوا كما نقول ، ولذا فان المتنبي وفي احدى خلجاته الشعرية الملزِمة للبث والبوح ، فكرة ان امراة يمتدحها او يرثيها تكون ممَيزة عمّن يعرف الناس من النساء ، ليجعل منها اشهر النساء على مَر الزمان –شعرا- فعمد الى امراة عادية لاتزيد على نساء العامة شيئا ولا تبزّهن في أمر ، الا انها أم سيف الدولة وماتت ،، فاستغل فرصة بثه وبوحه فراح يصب عليها جام ابداعه ويستخرج من مكنونه زبدة يراعه ، وقال ابياتا ذهبت امثالا .
فقد كان المتنبي مظلوما اذ لم يعش في زمن عاشت به امراة ك (زها حديد) وكانت هي مظلومة اذ لم يسعفها القدر بشاعر خارق كهذا ، والا لكانت ابياته تلك في رثاء من تستحق الرثاء ولكانت زها حديد هي التي قال فيها بيته الجريء غير المسبوق :
ولو كل النساء كمن فقدنا ،،،،لفضّلت النساء على الرجالِ
وهي التي تستحق ان يستقبل خبر موتها منشدا بيته المؤلم :
وهذا اول الناعين طرّا ،،،، لأول ميتة في ذا الجلال ِ
وهي التي يرى تشييعها بين الناس فيقول بيته ذا المعنى المهيب :
مشى الامراء حوليها حفاة ،،،، فزفّ المرو من رفّ الرئالِ
وانثى مثلها جديرة بأن يقول عنها مستدلا ببيت مبتكَر :
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ،،،، ولا التذكير فخر للهلال
وهي التي يبكي عليها قائلا راثيا مادحا :
يمر بقبرك العافي فيبكي ،،،، فيغنيه البكاء عن السؤال
ولميّزها واصفا مفصّلا وقال :
وليست كالاناث ولا اللواتي ،،،، تّعدّ لها القبور من الحجال
ولكان صادقا في وصف عيشها الكريم المتنعم :
وزلتِ ولم تري يوما كريها ،،،، تُسرّ النفس فيه بالزوال
ولصوّر حسرتنا على نساء نوادر يصنعن المجد كأمثالها فقال :
أسائل عنك بعدك كل مجد ،،،، وما عهدي بمجد عنكِ خالي
بل ولكان فيها بيته الفريد المعنى والسبك كعادته:
وأفجع من فقدنا من وجدنا ،،،، قبيل الفقد مفقود المثالِ
و لدعا لها بصدق قائلا :
سقى مثواكِ غاد في الغوادي ،،،، نظير نوال كفك في النوال
ولكنها سنة الحياة فنحن جميعا :
يدفّن بعضنا بعضا ونمشي ،،،، أواخرنا على هام الأولي
وانما عزاءنا فيها وفيما نفقده في عصرنا المتردّي هذا وفي من نفقدهم أن لا نحن ولا هي :
ولا أحد يُخلَّد في البرايا ،،،، بل الدنيا تؤول الى زوالِ
لمناسبة وفاتها ووفاة المدرسة الثانوية العريقة التي درست فيها