الكتابة عن زها حديد كتابتان ،لذلك تعثّر هذا المقال كثيرا ، غيّرتُه مرتين ثم عرضت عنه ثم عدت اليه ، فماذا افعل ، ما ان اتسلح بقلم الصحفي اجدني امام مشاهد تتطلب تشريحا نقديا .. ثم اغير ادواتي واخلد للتامل والاستنباط والاستقراء بين “ماقل ودل” و”لزوم مالايلزم” ، فتختلط الكلمات بين السيرة التي تكررت في الصحافة كثيرا ، مع حرائق التجديد والفن والتاثر والتاثير ، وخرق الهندسي بالهندسة وتحطيم الشعرية بالشعري نفسه . لن يحصل هذا الالتباس اليوم الا وانت تكتب عن زها حديد ؟ هذا العالم الدفين المركب من وضوح وغموض ، من جد ولهو، من رصانة شديدة وخفّه مطلقة ، اذا لم تكتشف البرزخ بينهما لم تكن قد قلت شيئا ، اكيد ستكتب عن خبر رحيلها المبكر وهي في قمة عطائها ، وعن تاريخ اسرتها متمثلة بابيها الوزير وظروف هجرتها ،وعظمة انجازها وخيبة العراق في الافادة من انجازات مبدعيه الذين انتشروا عبر تخوم الارض ، و ستلعن السياسة بالتاكيد لانها سببٌ في ان العراق الثري ليس فيه قطار او مترو تحت الارض او عمارة شاهقة ، وانه يستورد كل شيء وينتج النكات والطرائف ، وكيف تعايش شعبه مع الفساد باعتباره قدرا حتميا مقبولا كالموت ، وكيف ان زها تعاني الغربة و رغم عربيتها الضعيفة تسمع اغاني طالب القره غولي . وكيف انها علّمت اجيالأ من دول مختلفة في ارقى جامعات الارض .. ثم تختم المقال بان زها حديد التي احدثت فتحا في العمارة العالمية خلال نصف قرن بين قرنين وتفوقت على الملاعين اليابانيين والحشاشة الامريكان و الحنبلية الانكليز لتكون اناملها مثل عصا موسى تبتلع انجازات مبدعيهم جميعا . وبعد ان تختتم تذيل مقالك بذكر انجازها الوحيد المنتظر في العراق وهو مبنى لمجلس النواب لولا رفضهم التصميم الذي انجزته رغم ان المشروع كان تبرعا دون مقابل من زها عشان خاطر الوطن الام .
……..
لكن هذا كله ليس كتابة عن زها حديد ليس كتابة ورؤيا مستعادة من عوالمها الخلاقة ، من هدير خيالها الذي جعل العمارة عقد قران مرئيا بين الارض والسماء وهما تحتفلان في رحاب البحار والغيوم على اجنحة السقوف ورقص الجدران وموسيقى الاماكن .
كل الذين اتهموا زها بمكر الانثى وتسلل اسطورتها وغوايتها وبراعة دس الانوثة بالحجر الى اعمالها كانوا على حق ، وكل الذين حاربوها في العلن ،عالميا لانها عربية، او عربيا لانها امراة ،ركعوا لروحها في السر وهي تستنطق الصخر، وتحرر الناس من عبودية المباني التقليدية والجسور النائمة والعمارات الشاهقة وهي تنتهك السابلة المشاة لتجعلهم يتحركون كالنبض على جسد كل تصميم تنجزه في علاقة سحرية لعوب بين البيئة والخيال.. وكانها تصمم اماكن للناس كي يخرجوا منها لا ابنية يدخلون اليها .
……
من خلال مشاهداتي المكثفة لمخلوقات زها حديد ودهشتي الريفية بازائها ،يحضر السؤال الاساسي .. كيف تكون تلك اعمالا فنية فذة وفي الوقت نفسه ابنية عملية لتلبية متطلبات الاعمال والوظائف والحياة اليومية الاعتيادية ؟
اتخيلها تبدا بانشاء عمارة تقليدية لاي مشروع في ذهنها تنظم اماكنه وحاجات المستهلكين له وتؤثثه . ثم تبدأ بطبخة واذابته على نيران جنونها ، فتراه كيفما سال وتمدد وانحنى وعانقت زواياه بعضها وتحول من مقالع للحجر الى مناجم ملتهبة للعاطفة . كيفما اتجه وجنّ وتطاير واستوى ، حافظ على مساحات الحياة التقليدية فيه . بمعنى ان زها انجزت توأمة الممكن العملي الواقعي المدلول مع الذهني المتخيل الشاذ الدال .في جنون هائج يصل حد الانضباط كانها من كائنات سلفادور دالي ، أودقةٍ واتقانٍ يصل درجة الجنون كانها تمرح في مخ اينشتاين وتتسلق على اعصابه . لتترك لنا اخر اعمالها المعقدة : ابتسامتها الساخرة من حياتنا مؤقتة وخطوطنا مترددة راجفة وكوابيسنا بعدما فشلنا في تجسيدها ، كما فعلت هي على جسد الكرة الارضية التي تبدو للمتأمل من تصميمها.
……
الرحلة في دروب زها الوعرة ومشاهدات اعمالها وتفصيلاتها بحد ذاتها ثقافة ونمو ووعي وايقاظ لمكامن خاملة او مترددة في النفس البشرية ،لذلك اتمنى ان يكون درس زها حديد منتظما في المدارس الاولية ولاحقا ، كي نكسب في الاقل التعلم من ذكراها ، بعد ان فاتنا مافاتنا من تنّورها ، فمن يعلّم الناس يرحل مطمئنا على بلد يرث ابناؤه فيه علمْ أبنائه ، وغير ذلك ياخذ من كبد الوطن حصته ويمضي .