أخبار العراق هذه الأيام لا تغم فقط بل تسمم القلب والروح والبدن، وتشعل فينا الخوف من القادم المخيف. فلا الحكومة وأصحابها ولا المعارضة وأربابها يدركون خطورة ما يجرون الوطن إليه، وهم يخوضون هذه المعارك الطاحنة فيما بينهم ويستخدمون فيها كل ما تيسر من حلال ومن حرام، والوطن غافل عما يعمل الظالمون.
تأملوا هذا الخبر.
” أعلنت النهضة الإسلامية في العراق اليوم عن تشكيل جيش “شعبيّ مناطقيّ يدعم توجهات الحكومة لمحاربة تنظيم القاعدة”، وسيكون هذا الجيش الذي أطلق عليه اسم “جيش المختار” على أهبة الاستعداد “إذا ما حاول الجيش العراقي الحرّ أو تنظيم القاعدة استغلال التظاهرات التي تجري في بعض محافظات العراق”.وقال واثق البطاط الأمين العام لحزب الله ـ النهضة الإسلامية في العراق- في مؤتمر صحفي عقده اليوم في بغداد إن “جيش المختار” سيكون سنداً لتوجهات الحكومة المركزية في محاربة التنظيمات الإرهابية كالقاعدة وما يسمى بالجيش العراقي الحر”.وأضاف البطاط ان تنظيمه “ليس ضد المظاهرات التي تشهدها المحافظات العراقية، لكنه ضدّ استغلالها من قبل تلك التنظيمات الإرهابية” مؤكداً ان تنظيمه لن يقف مكتوف الأيدي “إذا ما انحرفت تلك التظاهرات عن مسارها على يد الإرهابيين”. طبعا لا يمكن تبرئة رئيس الحكومة من هذه اللعبة الخائبة التي لا معنى لها سوى أن القائد الضرورة الجديد ماض قدما في تعميق الهوة بين أبناء الشعب الذي ائتمنه على أمنه وكرامته ورزقه ومستقبل أجياله القادمة.
وقديما قيل: قل لي من صديقك أقل لك من أنت. ولكي نعرف معدن القائد وخامة قيادته تكفي نظرة عاجلة على أصحابه ورفاقه وأعوانه ومستشاريه. فالحاكم الذي يتخذ الأمي والحرامي والقاتل والنصاب ومزور الشهادة ظهيرا ورفيقا وحاميا إنما يعلن على الملأ أن هذا هو مستواه وفهمه وعلمه وهواه.
إن الإعلان عن تشكيل جيش المختار، وغيره من الجيوش الأخرى المتأهبة للقتال والواقفة عن يمين الرئيس وشماله، بحجة مواجهة القاعدة إذا تسللت إلى صفوف المتظاهرين، رسالة موجهة لا إلى المتظاهرين (السنة) وحدهم بل إلى (الشيعة) أيضا، مفادها أن على كل من تسول له نفسه معارضة الرئيس ، وخاصة في موضوع التجديد لفترة ثالثة، أن يفهم أن المالكي لا يريد أن يصلي على النبي، ولا ينوي أن يترجل عن كرسي الرئاسة بالتي هي أحسن، مهما قلتم وفعلتم، وأن جيوشه التي شكلها وسلحها ومولها من أرزاق الشعب العراقي، شاهرة سيوفها، وجاهزة للقتال، حتى لو احترق الوطن كله من أقصاه إلى أقصاه.
أما الخبر المحزن الآخر فهو الذي نشره موقع (كتابات) استنادا لمصادر من داخل وزارة الداخلية يقول ” إن الوزارة تخطط لارسال طلبات جديدة إلى الشرطة الدولية “الانتربول” تتضمن إسقاط التهم الموجهة الى السيد مشعان المطلوب للقضاء بتهم فساد إداري ومالي، وذلك لتسهيل عودته إلى بغداد بتكليف شخصي من رئيس الوزراء إلى عزت الشابندر، لتسوية الأمور الخلافية وإسقاط التهم الموجه إليه”.
وبالفعل باشر الشابندر عضو ائتلاف دولة القانون جهوده المباركة لتنفيذ رغبة السيد الرئيس. فقد أكد لصحيفة (العالم) قيامه بإدخال معدات القناة التلفزيونية التابعة لمشعان ، رافضا أن يؤكد أو ينفي بث القناة من منزله في منطقة الحارثية.
ولكن في الوقت الذي زعم فيه الشابندر أن “اجراءات ترخيص قناة الشعب الخاصة بهيئة الاعلام والاتصالات اكتملت، ولم يتبق منها الا دفع الرسوم البالغة 50 مليون دينار، وأنها خلال يومين أو ثلاثة، ستدفع هذا المبلغ، ويتم إنجاز الترخيص”، بحجة أن ” أداء القناة تغير وتحسن، وأنها لم تعد مسمومة كما في السابق”، نفى مجاهد ابو الهيل، مدير دائرة تنظيم المرئي والمسموع في هيئة الإعلام والاتصالات، ما ذكره الشابندر من إنجاز الترخيص لقناة الشعب الفضائية، قائلا ، إن “قناة الشعب لم تقدم للهيئة طلبا بالحصول على رخصة على الاطلاق”.
ولمعلوماتكم إن قناة السيد مشعان تبث من عقر دار دولة القانون، متحدية جميع القواعد والقوانين، وبدون ترخيص. فهل من يدلني على سر هذا الاهتمام الكبير المفاجيء بالسيد مشعان من قبل رئيس دولة القانون ومستشاريه، خصوصا في هذا الوقت العصيب الذي يتطلب من الرئيس أن يجنح إلى الروية والحكمة ويستجمع حوله أخيار العراقيين أصحابَ العقول الراجحة والنفوس الكبيرة والضمائر الحية النقية ليساعدوه على تصحيح المسيرة، وردم المزالق، ودفن الحزازات، وإعادة الإلفة والمودة والرحمة والصدق والوطنية الخالصة التي لا تفرق بين عراقي وعراقي بسبب طائفته أو قوميته أو دينه، ولا حزبه وائتلافه. خصوصا وأن سفينة الوطن اليوم في أسوأ حالاتها، مع اقتراب سقوط نيرون سوريا، وما يشكله هذا السقوط من مخاطر لا على الحكومة وحدها بل على الوطن العراقي وأهله أجمعين؟
فالمعروف أن القضاء العراقي أصدر أحكاماً بالسجن بحق السيد مشعان لمدة 15 سنة، بتهم الفساد الإداري لتورطه بالاستيلاء على مبالغ إطعام أفواج حماية المنشآت النفطية التابعة لوزارة الدفاع خلال عامي 2004 و2005، وتأسيسه شركة وهمية للأطعمة.
فهل يمكن أن تكون المحكمة الجنائية عادلة حين حكمت عليه بالأمس بالسجن خمس عشرة سنة، ثم تكون عادلة أيضا حين تعود اليوم فتلغي أحكامها عليه، وتسقط عنه جميع التهم السابقة؟.
ويُفترض أنها لم تحكم عليه بالشبهة، ولا بالأقاويل الملفقة، ولا بالتهم الباطلة، بل نظرتْ بعين العدالة والنزاهة إلى الوقائع والأدلة والبراهين الثابتة، ( كأي قضاء مستقل وغير مسيس)، ثم اقتنعت بأنه مذنب، فأصدرت حكمها بسجنه على أساسها، وبالتالي فليس ممكنا ولا جائزا لأحد، كائنا من كان، أن يخالف ذلك أو يعترض عليه، ناهيك عن إسقاطه وإلغائه، بأي عذر وبأية حجة أو ذريعة.
لقد كان يمكن أن يبدو أمرا طبيعيا وعاديا لو كان اهتمام قائد الوطن بأحد من الناس احتراما لتاريخه النضالي، أو تكريما لمنجزاته الفكرية والعقائدية، أو اعترافا بشعبيته الطاغية في صفوف العر اقيين، أو حتى خوفا من حزبه ومليشياته المدججة بالسلاح، مثلما جرى مع عصائب الحق وجيش المختار، مثلا؟، أو حتى طمعا فيما يحمله من دولارات؟ وهل نوري المالكي بحاجة إلى مال لينظر إلى جيوب السيد مشعان؟ ولكن الواقع أن هذا الشخص ورقة محروقة ضررها أكبر من نفعها.
طبعا لا يعنينا ما قيل وما يقال عنه، خصوصا علاقته بعدي ومخابرات النظام السابق، ثم عن مرافقته للأمريكان بعد ذلك، ودخوله البرلمان برضاهم وتأييدهم، ثم إقناعهم بقدرته على حماية أنابيب النفط، وحصوله على عقد بعشرات الملايين لحراستها.
كما لا يهم أحدا أيضا ما قيل ويقال عن قيامه بسرقة طعام حراس تلك المنشآت، ولا عن البرلمان الذي تخلى عنه بسرعة، وأسقط عنه الحصانة، بحجة أنه تأكد من صحة اتهامات القضاء له بالإرهاب.
ثم من رفقة عدي، إلى معارضة عدي وأبيه وحزبه ونظامه. ومن أحضان الاحتلال وأفضاله البرلمانية والمالية والسياسية إلى (مقاومة) الاحتلال، ليصبح ناطقا باسم المقاومين، ومدافعا صلبا عنهم وعن البعث وعن صدام حسين، مرة أخرى.
وحين ضاقت به الدوائر في القاهرة ودبي طار، على بساط الريح القومي الممانع، إلى دمشق، ليطلق منها فضائيته (المقاومة)، ويصدر صحيفة، ويشتري فنادق وعمارات، بمباركة المخابرات السورية التي لا تسمح حتى لعصفور بأن يعبر حدود سوريا ويرفرف ويزقزق في سمائها دون علمها وإجازتها وتوجيهاتها.
ولأنه صار الناطق العلني باسم المجاهدين (البعثيين)، الذين اتهمهم المالكي بإدخال المفخخات وتفجيرها في منازل العراقيين، فقد كان من الطبيعي أن يصبح العدو الأول لحزب الدعوة ودولة القانون.
وفي عز نضاله القومي ضد الاحتلال الإيراني للعراق وهيمنة الأحزاب الإسلامية (الشيعية) على السلطة في العراق ظهر السيد مشعان على شاشة الجزيرة في برنامج الاتجاه المعاكس يوم 2 كانون الثاني/ يناير 2007 ليعلن بالفم المليان: أن ” جميع من قتلهم صدام لا يساوي من قتلهم مقتدى وجواد المالكي وعبد العزيز الحكيم من أهلنا السنة في العراق خلال شهر” وهذا هو البرابط لذلك الحديث.
http://www.youtube.com/watch?v=kL6iLmh1PvI&feature=related
وعند اشتعال الثورة الليبية على الديكتاتور الليبي وجماهيريته العظمى جند السيد مشعان نفسه وقناته وصحيفته للتبشير بانتصار القائد الأممي على الجرذان والصرارير، وصار بُوقــَه الوحيد مقابل ملايين جديدة. وأخيرا، وعند اندلاع الثورة الشعبية السورية أدرك السيد مشعان بالسليقة أن سفينة النظام في طريقها إلى الغرق الأكيد، فأغلق فضائيته وصحيفته وباع ممتلكاته وطار إلى بيروت مُحمَّلا بملايينه القديمة والجديدة، باحثا عن عباءة جديدة من قماش جديد ومن لون جديد.
ثم، وعلى عادته في صياغة المفاجآت، دار من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، برمشة عين، وتمكن بدهائه العجيب من عقد اتفاق (أخوي) حميم مع عدوه القديم نوري المالكي يتعهد له فيه بولائه المطلق، واستعداده لخدمته من داخل مواقع السنة، ومن مناطق نفوذ المقاومة ذاتها، وعزمه على إطلاق فضائية جديدة تتفرغ لنصرة المالكي ضد معارضيه السنة، مقابل ثمن صغير، صغير جدا، لا يكلف السيد رئيس الوزراء سوى مكالمة هاتفية واحدة يجريها أحد معاونيه مع المحكمة الجنائية، لتلغي أحامها السابقة، وعفا الله عما سلف.
هل ترون؟ هذا هو نوري المالكي، وهؤلاء هم رفاقه وأصحابه وبطانته، مع الأسف الشديد. وهذه هي الحكاية من طقطق لسلام عليكم. فأين وجه الغرابة؟.