22 ديسمبر، 2024 7:01 م

عندما كنا صغاراً تعلو وجوهنا البراءة وسنين الطفولة كانت تمرّ أمام مسامعنا مسميات “الحجي” بين أخوالنا وعمومتنا ونفر من عشيرتنا كانوا ينادون بالحجي احتراماً لشيبته ووقاراً له، كنا نلوذ بهم عندما نرتكب خطأً ما نجالسهم ونسمع منهم أحاديث الزُهد والتعبد والتقوى، كان بعضهم يقّص علينا قصص الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمرات، كنا نستمتع بهذه الأحاديث ونتوضأ بأدعيتهم ونتمنى لو كنا معهم فنفوز فوزاً عظيماً وكم من مرة خشينا من دعوة لا تُرد لهم لكل من تسوّل له نفسه العصيان والعبث متوسلين بهم أن يمنحونا بركة الدعاء الذي لا ترده السموات.
وكبرنا وكبُرت معنا مسميات الحجي وبدأنا نُدرك معاني هذه الكلمة وازداد أعداد الحجاج واختلط علينا الحابل بالنابل فلم نعد نفرق بين الحجي الذي توضأ بماء زمزم وتمرّغ أنفه وهو ساجد في أرض الكعبة وبين من تنقل بين أجساد العاهرات فأصبح الجميع نسميهم بالحجي وضاعت علينا البوصلة في هذا الزمن الرديء فلم نعد نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، بين من يسهر الليل في التسبيح والصلاة وبين جليس صالات القمار ومرتادي النوادي فكل منهم صار “حجي”، ومازاد في الزمن رداءةً وخسةً أننا بِتنا نرى مسؤولاً فاسداً يطلقون عليه لقب “الحجي” لم يحرك ساكناً وهو يرى مشاهد الفقر وهو ينهش بقايا أجساد الفقراء في لوحات مأساوية تصورها الفضائيات. ولم يذرف هذا الحجي دمعةً واحدة وهو يرى عراقيين وهم يبحثون بين النفايات عن طعام لهم ولعوائلهم.
لا غرابة اليوم في العراق فكلُ شيء متوقع واصبحنا نصدق من لا صدق له وأصبح العاهر والفاسد واللص والقاتل نَصِفهُ بكلمة تم تدنيسها وانتهاكها وضاع علينا الميزان. هي مسمى لطالما احترمناه ووهبناه كل معاني الاحترام والتبجيل وخاطبنا بها كل شخص مسن حتى وان كان مجهولاً تسقط اليوم هذه الكلمة وياللأسف في براثن التدنيس منزوعة التقدير ولتصبح قلادة على صدور السُراق والفاسدين وأصحاب صالات القمار.
كنتُ اتمنى من المجتمع وعقلاء القوم أن يجدوا كلمة بديلة عن كلمة “الحجي” يصفون بها من يستحقها، أما اللصوص والسراق والفاسدين وأصحاب صالات القمار والدعارة فدعوهم يسمون أنفسهم بالحجي فتلك مُزحة او نكتة سوداء يهزأ بها أصحابها من أنفسهم قبل أن يهزأ بهم المجتمع فالزمن الرديء يجمع ماحوله كل ماهو منحط.