18 ديسمبر، 2024 9:06 م

زكي نجيب محمود وإخفاقات النهضة العربية

زكي نجيب محمود وإخفاقات النهضة العربية

إن المأزق الحضاري الذي وقعت فيه الأمة العربية منذ سقوط بغداد على يد المغول سنة 656 هـ/1258 م ودخول الأمة عصر الظلمات وما انجر عن ذلك من تردي الأوضاع السياسية، وتقهقر الحياة الاجتماعية، وأكثر النواحي التي تتجلى فيها الأزمة هي الناحية الثقافية، لقد كفت الأمة عن الإبداع واكتفت بثقافة الاجترار وشاعت ثقافة المتون والحواشي والتعليقات، وفي خضم هذه الأزمة غيب العقل وكف عن آداء مهامه، واكتفى المسلمون بالتقليد في حياتهم الدينية، وكفوا عن النظر إلى الطبيعة لإدراك أسرارها واستجلاء نواميسها وترويضها لمصلحتهم واستعاضوا عن ذلك كله بالنظر في الكتب القديمة وكأنها الكلام الذي لايعلى عليه، والثقافة الحقة، وترتب على ذلك أن لازمتهم عقدة نقص إزاء الماضي ورموزه فهو الكمال وهم النقص وهو الحقيقة وهم الباطل، وحتى الأدب الذي هو مظهرمن مظاهر النشاط الفردي البحت حيث يعبر عن الإنسان – خاصة في الشعر- عن “أناه” دخل في الركاكة والإسفاف في القول، وأهمل المضمون لحساب الشكل، وأصبحت الكلمة المأثورة عن ابن العميد في التزامه السجع، وهى لو أنه رأى سجعة تنمق كلامه للزمها ولو تزلزل المشرق والمغرب أصبحت هذه الكلمة مثارإعجاب الناس وتقديرهم، وهي لعمري ميزة من ميزات الرداءة وسمة من سمات الانحطاط، وزاد الطين بلة انتصار الغزالي في سجاله وجداله مع ابن رشد – وهو انتصار موهوم – صنعته الدهماء والعامة، إن هذا النصر الزائف قضى على روح الإبداع وألجم العقل، وجعل ثقافتنا ثقافة كلام وأسجاع وولوع بالغيبيات أكثر من اللازم، وإهمال تام للطبيعة وديناميكيتها بكشف أسرارها واستجلاء غوامضها وتجذرت في الأمة روح الزهد فالدنيا دار خسار وتباب، والعاقل هو الذي يدير ظهره لدنياه مقبلا على آخرته ووجدت هذه الأفكار المريضة ترجمتها وتجسدها في تجذر التصوف وشيوع طرقه وتأله رموزه عند العامة، وأصبح شعرهم وكلامهم حجة الله البالغة وأفعالهم آية الرشد والكمال،ونظرة واحدة على تراث هذا العصر تؤكد أن العصر هو عصر الكلام والأسجاع والولوع بالماضي لا عصر الأفعال والمضمون والتعلق بالحاضر ولعل الاستثناء الوحيد في هذا العصر هو ظهور مفكر واحد من طراز ابن خلدون ولعل الأثر الوحيد الخليق بالنظر الجدير بالإعتبار هو مقدمته وأما ماسوى ذلك فاجترار وكلام في كلام.

ولقد دام هذا العصر إلى الحملة الفرنسية على مصر 1798/1801 بقيادة نابليون بونابرت الذي جلب العلماء والمهندسين والأطباء وعلماء الكيمياء، ولقد قارن بعضهم ما وصل إليه الفرنسيون من نظافة بدن وهندام وما أحرزوه من علم (كحيل الكيمياء وتجاربها التي كان يجريها العلماء أمام الملأ) وبين ما يميز حياتهم من ضعف ووسخ وجهالة وعماء فأدركوا الفرق ومما يبعث على الأسى ويحز في النفس اشتغال البعض الآخر بالبحث في اسم نابليون أهو معرب أم مبني؟

في هذا التاريخ أي عام 1798 دخلنا عصر بحث المشكلة بإدراك نقصنا وتخلفنا بعد أن ظننا أننا الكمال والنهضة وبفضل مطبعة “بولاق” التي جلبها نابليون وبفضل البعثات العلمية إلى الغرب خاصة فرنسا ظهر لأول مرة جيل من المفكرين المعنيين بهم النهضة ومشكلة التخلف من طراز رفاعة رافع الطهطاوي ويعقوب صروف وعلي مبارك وخير الدين باشا وصولا إلى طه حسين وعلي عبد الرازق وسلامة موسى.

وفي هذا الجيل عاش واجتهد وفكر وقدر الدكتور زكي نجيب محمود الذي ولد عام 1905 ولقد كانت صحبته للعقاد ودراسته في إنجلترا (قسم الفلسفة) حيث نال الدكتوراه أضف إلى ذلك الهم الذي لازمه والمشكلة التى عني بها وهي مشكلة التخلف المتجلية في الرجعية، والتقليد وإهمال العقل والولوع بالكلام على حساب الفعل، واستبداد السياسة وغياب الحريات، وإهمال الطبيعة ومباهجها ومجاهلها بالركون إلى الزهد والولوع بالتصوف، والميل إلى الجانب الديني على حساب الجانب الدنيوي، وترك روح المغامرة وبهجة الاكتشاف لحساب روح الجمود والإكتفاء بالاجترار من الكتب القديمة، كل هذه التجليات لمشكلة التخلف كانت في صميم تفكير الدكتور زكي نجيب محمود.

لقد اعتنق هذا المفكر الوضعية المنطقية، وهي مجال تخصصه وكانت أطروحته لنيل الدكتوراه عن المنطق الوضعي وتتلخص فلسفة الدكتور زكي نجيب محمود في كون مشكلة التخلف التي يعاني منها المجتمع العربي سببها الرئيسي هو إهمال العلم – ونقول العلم بالمفهوم الكونتي- أي العلم كما مارسه جاليليو ونيوتن وكبلر، وهو العلم الذي يقصر نشاطه الغالب على الطبيعة حيث يحيا الإنسان وحيث يجب عليه فهم آلية عمل الطبيعة بنواميسها الخالدة ومن ثمة الاستفادة من تلك القوانين في اختراع ماييسرحياة الانسان ويجعلها حياة رخية ميسورة، وهي ميزة مرحلة الوضعية في تاريخ الفكر البشري كما شرح ذلك أو جست كونت.

لقد كان عصر الأنوار في أروبا بداية لنهاية مرحلة من مراحل التاريخ البشري، وتجد هذه النهاية دلالتها في نظرية كوبرنيك (الهليوسنترزم) أي مركزية الشمس لا مركزية الأرض للكون (الجيوسنترزم) وكان هذا انقلابا معرفيا جعل الانسان محورا للكون وسيدا على الطبيعة يستخدم عقله وحده في اكتشاف مناهج البحث العلمي ومن ثمة تطبيق هذه المناهج على الطبيعة والانسان والتراث، والعقل هنا حر، مرن، خلاق لا حد لقدراته ولا رادع لآفاقه، يكتشف ويصل إلى الحقيقة بحرية وديناميكية لا نظير لهما وبلا وصاية كهنوتية. إن هذا العلم كما عرفته أروبا ومارسته هو الذي أخرجها من الظلمات إلى النور ويسر حياتها، بأن قضى على الكهنوت واستأصل الاستبداد السياسي والقهر الفكري وأصبح كل موضوع قابلا للبحث وللمتابعة العقلية بموضوعية وأمانة فكرية ليس في الطبيعة وحدها بل وفي الإنسان وتراثه القديم ( المقدس والوضعي) معا.

وولع الأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود بالعلم لاحد له فهو حاضر في مقابلاته ودروسه ومؤلفاته – والعلم كما شرحناه سابقا- فغيابه حسب رأيه أدى إلى الكارثة والعلم كما تفهمه الوضعية المنطقية وكما يفهمه زكي نجيب محمود كل لا يتجزأ، ففي الطبيعة علم، وفي التاريخ علم وفي دراسة نصوص الأدب وتحقيقها علم،وفي السياسة علم وفي دراسة الحياة الاجتماعية علم، لأن العلم هو النظر إلى الشىء كما هو بموضوعية لكشف غامضه وفهم آلية عمله، فتحقيق نص أدبي قديم هو علم تماما كدراسة ظاهرة طبيعية فالروح العلمية في كلتيهما واحدة وإنما تتباين المناهج والطرائق.

ونظرة على قائمة مؤلفاته تؤكد هذه الحقيقة: مجتمع جديد أو الكارثة، تجديد الفكر العربي، في حياتنا العقلية، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، عن الحرية أتحدث، المنطق الوضعي….. إلخ

وقد نجح زكي نجيب محمود في أسلوب كتابته فهو من السهل الممتنع قوامه الألفاظ الدقيقة المعنى، والبعد عن الحشو والإطناب وتجدر الإشارة إلى أن الوضعية المنطقية ترى في اللغة خادما للفكر وأن اللغة السليمة هي التي تعبر عن المعنى بمفردات قليلة، وهذه ميزة أسلوب فيلسوفنا وكاتبنا، فما عرف في أسلوبه حشو أو إطناب أو خروج عن الموضوع وماعرف عنه التكلف والاهتمام بجودة الصياغة وأناقة التعبير فهمه كان منصبا على المعنى لا الشكل والمعنى هو القول الثقيل الذي أراد إيصاله إلينا، على أن هذا لا يعني إهمال اللغة بالخروج على قواعدها- جهلا أو تعمدا- وإنما لكل مقام مقال.

وهو في دراساته النقدية لأدبنا الحديث يكشف عن ذوق فني كما لا يخفي إعجابه بشعر النابغة الذبياني، وهو أول من أطلق على العقاد لقب شاعر الجلال، ولا يخفي إعجابه بالنزعة التجديدية في شعراء الرومانسية الشباب كالهمشري والشابي والتيجاني بشير يوسف، وهو لا يجاري بعض النقاد أو الشعراء في التخلي عن الوزن.فالشعر موسيقى في الصميم وهو يأخذ على أحمد عبد المعطي حجازي إهماله الوزن في بعض قصائده في ديوانه الأول وقد اعتبرها خسارة كأن المعنى سكب على الأرض سكبا بغير قالب يحفظه، وهو مع شعر التفعيلة ولكن كما مارسه الكبار السياب، والملائكة وعبد الصبور وغيرهم وكل هذه الآراء في كتابه القيم “مع الشعراء”

وفي كتابه المعقول واللا معقول في تراثنا الفكري عاد الدكتور زكي نجيب محمود إلى دراسة التراث العربي فوجد أنه تراث مطبوع بطابع اللامعقول، موسوم بسمة التنجيم، روحه روح الاجترار لا روح الإبتكار وميزته ميزة التقليد لا التجديد إنه تراث عمي عن رؤية الكون والتأمل في الطبيعة بحرية وروح مغامرة واكتفى بتوليد الكلام من الكلام في شكل حواشي وتعليقات يحتل الجانب الديني- فقها وتصوفا- الحيز الأكبر، وتغيب الدنيا بأسرارها ومجاهيلها ومباهجها عن أبصار أسلافنا، وانتقلت عدواهم إلينا، فواصلنا السبات وأسلمنا قيادنا لغيرنا يمارس البحث والتفكير والاكتشاف نيابة عنا مع أننا نحن الذين أعطينا العالم ابن رشد والبيروني وابن الهيثم وابن سينا والتوحيدي وابن خلدون.

لقد كان الدكتور زكي نجيب محمود مفكرا تصدى لمشكلة التخلف والرجعية، وكان عمله أشبه بالطبيب الذي أجرى الفحوص وقام بالتحاليل واستقصى الأعراض فعزل الداء وسمى الميكروب وأوصى بنوع العلاج الذي يستأصل الداء ويجلب العافية, كان كذلك في عمله الأكاديمي بالجامعة وفي محاضراته وفي مقالاته وفي مؤلفاته، وهو نموذج للمثقف الملتزم بقضية الشعب والوطن المخلص في العمل بلا محاباة أو رياء.

ومما يؤسف له أعمق الأسف أننا مازلنا في موقعنا من خط سير التاريخ نقدم رجلا ونؤخر أخرى، ضعفت ثقتنا بأنفسنا إزاء أسلافنا، وعدنا إلى الدجل، والولوع بالكلام والجري وراء السراب، وإطلاق لقب العالم على من لا يستحقه، وفي الطبع اللامنتهي لكتب السحر والشعوذة وتفسير الأحلام.

وكان مما آلم الدكتور زكي نجيب محمود رسالة وصلته من طالب سفه فيها فلسفته ووضعيته المنطقية لأنه نجح بفضل حرز كتبه له أحد الشيوخ، ومرة أخرى حين تمنى لو يقدر فيقوم فيغرس الأشجار ليرى سريعا ثمرة عمله قتقر عينه بعد عمر قضاه باحثا وعالما وكاتبا مخلصا لعقيدته وأمته فعزل الداء ولكن الأمة لم تلق بالا لنصيحته مصرة على غيها مدعية أن الداء هو غير الذي عزل الكاتب مواصلة تمددها على خط الزوال كما قال الشاعر صلاح عبد الصبور.