(6) ( *)
ريحٌ خفيفة تهبّ بلا اتجاه، أبواب الزقاق مفتوحة أكثر من العادة، وكل نافذة كأنها عينٌ تتلصص على الزمن.
النجّار، وهو ينقل خشبة طويلة نحو الساحة، وقف فجأة. لم يكن الصوت عاديًّا. خوارٌ خافت ثم تَصدّع.
تشققت أرض الساحة الترابية، بين بيت السيد وبيت النجّار، خرج منها بخارٌ أبيض، يتلوى ككائنٍ يتنفس.
ركض طفلٌ صغير نحوها، لكنه توقّف، كأنّ شيئًا بداخله قال: هذا ليس لك.
الناس تجمّعوا. البخار كان يصعد ويتحوّل. رأس امرأةٍ بلا ملامح ظهرت للحظة، ثم اختفت.
أحدهم صاح:
ــ “عين ماء؟!”
وقال آخر:
ــ “لا… هذه لعنة!”
أمّا النجّار، فقد غرس خشبته في الأرض عند الحافة وقال بهدوء:
ــ “هذه الأرض لا تُعطي بلا ذاكرة…”
وفي الزاوية الأخرى، وقف الجار الجديد، لا يتكلم. كان أنيقًا، نظيفًا، الكل يجهل اسمه، ولا من أين جاء.
قال بصوت ناعم:
ــ “لا تقلقوا، هذا طبيعي. تحت الأرض أسرار كثيرة… شغلتني في البحث عنها.”
لم يُقنع أحدًا، لكن لم يرد أحد أن يجادله.
في المكتبة، حيث جلس الكاتب، ثلاثة من الزبائن يحاورونه:
الأول يتحدث عن الكتب الممنوعة، الثاني يسأل عن دليل ترميم الأبنية القديمة، أما الثالث، فكان يقرأ بصمت، ثم سأل:
ــ “هل الزقاق مكانٌ حيّ أم نحن الوهم؟”
ابتسم الكاتب وقال:
ــ “الزقاق حيّ. لكن ليس من لحم. من صوت، من نظرة، من صمتٍ فجائي.” ثم صمت، وأغلق دفترًا على نصف فكرة لم يُكملها.
خرج من المكتبة قبل الغروب، ومرّ قرب بيت أم ناصر، توقّف فجأة. كانت فتاة الجيران تنشر الغسيل.
رفعت رأسها.
نظرت إليه، نظرة واحدة، قصيرة، لكنها دخلت إلى صدره كأنها مفتاح يفتح بابًا قديمًا نسيه مغلقًا. تغيّر شيء ما في وجهه، أعاد ترتيب خطواته، ومشى نحو البيت.
في الليل، عاد البخار. لكن هذه المرة، خرجت منه رائحة زهور برّية، وُجدت ورقة
بيضاء عند موضع الشقّ، كُتب عليها: “الأرض تتكلم حين يصمت الناس.” قرأها النجّار، وأخفى الورقة في جيبه.
(7)
ليلٌ من تلك الليالي التي تشبه حلمًا رطبًا لا يريد أن ينتهي. لم تنم أم ناصر.
في الزاوية التي جلست فيها طوال اليوم، شعرت برعشةٍ غريبة في أطرافها. لم تكن مرضًا… بل نذيرًا.
في الخارج، الشق الذي ظهر في الأرض بالأمس، اختفى، كأن الزقاق امتصّه.
لكن النجار، في صباحٍ باكر، اكتشف أن خشبته التي غرسها هناك… تحوّلت. كأن يدًا نحّاتها بنقشٍ قديم.
قرأ الكلمات، لم يُخبر أحدًا.أحرق الخشبة في ورشته.
في الجهة الأخرى من الزقاق، الجار الجديد بدأ أعمال حفر.
قال: إنه سيبني مخزنًا صغيرًا،
لكن الجميع لاحظ أن ما يُستخرج من الحفرة لم يكن مجرد تراب.
أوانٍ قديمة، تماثيل صغيرة، وعظام.
جاء وفد من قسم الآثار، وصدر قرار بإيقاف البيع، السيد أُجبر على تجميد عرضه.
لكنه لم يُعلّق.
جلس في حديقة بيته، حدّق طويلًا بالقفص.
كان العصفور الرمادي… يُغني للمرة الأولى.
أما الكاتب، فكانت حاله غريبة. في مكتبته، قرأ في يومٍ واحد ثلاثة كتب كاملة. وأعاد ترتيب القصص في واجهة العرض.
وضع رواية بعنوان:”الدار التي حلمت أن تصير غابة.”
جاءت الفتاة، نفسها، بنت الجيران.
لم تقل شيئًا. أعطته ورقة. كُتب فيها:
“ليس كل ما نراه حقيقة، لكن ما نشعر به، لا يكذب أبدًا.”
حين رفعت رأسها، كانت تبتسم.
وهو، ولأول مرة، شعر أن الزقاق لا يريد أن يُنسى.أنّ شيئًا ما… يشاء البقاء.
في المساء، عادت أم ناصر إلى طاولة اللبلبي وضعت فوق رأسها صندوقًا خشبيًا صغيرًا، فتحته أمام عدد من النسوة، وابتسمت:
ــ “أهلاً بكنّ… لكن لا تسألن، فقط تذوّقن.”
وفي قلب الزقاق، صوتٌ خافت يتردّد، كأنه قلبُ مدينةٍ قديمة… لم تتوقف عن الخفقان.
(8)
قبل الفجر بقليل، بدأ الزقاق يرتجف. مرت رعدة خفيفة… كأن أحدهم مرّر يده على ظهر المدينة.
استيقظ النجار أولًا.
سمع طنينًا يشبه منشارًا لا يُرى.
خرج من بيته، فوجد صندوقًا قديمًا على عتبة الورشة، نُحت عليه بخط محفور:
“من تركنا خلفه، عاد.”
أما الجار الجديد، فقد توقّف عمّا كان يحفره. تسلّل في الليل إلى بيت السيد، لكن الباب لم يكن موصدًا،
فقط… مفتوحًا على حديقة تملؤها رائحة زعتر بري.وفي الداخل، لم يكن السيد،
بل كان هناك رجلٌ مسن، يشبه الصورة التي كانت في مكتبة الكاتب عن أحد مؤسسي الحي، “الحاج مكي “،المختفي منذ خمسين عامًا.
جلس الرجل قرب القفص،وقال للعصفور الرمادي:
ــ “كنّا نغني لنزرع البيوت، لا لنبيعها.”
في الصباح، كانت مكتبة الكاتب تعجّ بالناس. ثلاثة زبائن تناقشوا معه بشدة حول عنوان غريب في الصحف: “ظلال بشرية تظهر فجأة في أزقة بغداد القديمة”
قال أحدهم:
ــ هذا الزقاق الذي تكتب عنه… يشبه ما نُشر.
هل هو حقيقي؟
ضحك الكاتب، وقال:
ــ “كل شيء حقيقي إذا تنفّس بك… أو خنقك.”
في الزاوية، كانت الفتاة واقفة، صامتة، وفي يدها كتاب.
فتحه الكاتب حين خرجت، فوجد فيه ورقة، مكتوب عليها: “ماضينا لا يموت… بل يتنكّر كغريبٍ ينتظر أن يُدعى للبيت.”
أما أم ناصر، فقد رأت في الطيف ليلًا: رجلٌ يمشي في الزقاق القديم، حافي القدمين، يهمس بالأسماء… ويختفي قبل أن يُرى.
(9)
في الليلة التالية، لم ينم أحد. الزقاق، بشوارعه المتعرّجة ونوافذه القديمة، بدأ يتنفّس بثقل، تنبعث منه روائح لم تُشمّ من قبل، عطر ماء الورد، وغبار سجّاد، وحطبٌ محترق من زمنٍ آخر.
النجّار، الذي نام قرب ورشته، استيقظ ليجد على طاولته بابًا صغيرًا لم يصنعه.
بابٌ بحجم كفّ فقط، وعليه نقوش تشبه رموز السحر البابلي، لكن ما أخافه هو أنّ الباب لم يكن مغلقًا تمامًا… بل مواربًا، وكأنّه ينتظر من يفتحه.في الجهة المقابلة، الجار الجديد اختفى.
لم يشاهده أحد يخرج أو يدخل. لكن حائط بيته ظهرت عليه فجأة كتابة لم تكن موجودة من قبل:البيت لا يختار من يسكنه… بل من يوقظه.”
في مكتبة الكاتب، كان يجلس مع الزبائن الثلاثة يتجادلون في مقال جديد:
“بوابة زمنية في حيٍّ قديم، وتصاعد بلاغات عن أصوات من تحت الأرض.”
قال أحدهم:
ــ كل شيء بدأ بعد القرار الحكومي،
ــ كأن شيئًا قديمًا لا يريد لأحد