اغلب هؤلاء القادة التاريخيين لم يكونوا زعماء “تقليديين”، فقد أوجدتهم المعاناة والحرمان، كمصير يضع الشعوب أمام قدرها المحتوم، فلم يسكنوا القصور، ولم تسند ظهورهم العروش، ولم تغرِهم ابّهة السلطة وملذّاتها.
كتب عدنان أبو ابو زيد:
حَكمَ زعماء شعوبهم، من دون الجلوس على كرسي السلطة، وتمتّعوا بكاريزما، فرضت على الملايين، الطاعة، ببساطة العيش، والزهد عن القصور، وتكنيز الأموال، ومن بيوتهم المتواضعة، حقّقوا ما لم يستطع نيله ملوك وأباطرة بجيوشهم الجرارة، وثرواتهم الضخمة. وهذه الكاريزما التي فرضت نفسها على النفوس، من دون أنساق مادية، أو إعلام يصنع النجومية، جعلت قائداً ما، يؤجّج ثورات الجماهير بإشارة من اصبعه، وزعيما ما، يغيّر نظاما سياسيا بأكمله في خطاب من بضع كلمات، وقائداً شعبياً، يغيّر في أمة، في لحظة من التأريخ، ما عجز عنه سلاطينها وجبابرتها.
واغلب هؤلاء القادة التاريخيين لم يكونوا زعماء “تقليديين”، فقد أوجدتهم المعاناة والحرمان، كمصير يضع الشعوب أمام قدرها المحتوم، فلم يسكنوا القصور، ولم تسند ظهورهم العروش، ولم تغرِهم ابّهة السلطة وملذّاتها.
الخميني والدالاي لاما
انّ أحد أروع صور التغيير السياسي، كان في الأول من شباط 1979، حين هبط شيخ عجوز، هو آية الله الامام الخميني من طائرة “اير فرانس” في مطار طهران بعد ان أمضى 14 عاما في المنفى بفرنسا، وبعد هروب شاه إيران الى مصر، لم يجلس هذا الزعيم الذي أسس الجمهورية الإسلامية بايران على كرسي الحكم، ولم يدخل قصور الشاه الفخمة، وعاش حتى وفاته العام 1989 في بيت متواضع، كان يستقبل فيه أبناء شعبه.
ان هذا السياق من “نوعية” الزعامات، يوحي للكاتب والناشط المدني فرحان أبو فادي، الحديث عن ان “معضلة السلطة اعسر ما واجهته المجتمعات البشرية عبر التاريخ، واختيار نوع النظام وادواته كان ولايزال من مدلهمات الامور”.
ويصنف أبو فادي، نوعين من القادة المؤثرين، الأول، حاكم ذو سلطة دستورية، شبه مطلقة، من دون منصب محدد، وهو ما يصطلح عليه “قادة الثورات” او “الاباء الروحيين للحكومة”، والنوع الثاني، الانقلابيون وهؤلاء مهما كانت احلامهم الرومانسية بمستقبل افضل، يفضحهم جشعهم واستغلال شعوبهم”.
وفي حين يرى الكاتب محمد حسنين هيكل، ان نوعية الزعامات الموجودة في العالم، اليوم، هم من “القادة الصغار”، الا ان هناك الكثير من الاستثناءات، بينها الزعيم الروحي للتبت الدالاي لاما، الذي لم يظهر في يوم من الأيام بالمظهر التقليدي للزعماء ورفض في زيارته الى الولايات المتحدة في شباط 2014، مراسيم الاستقبال التي تعد عادة لرؤساء الدول، على الرغم من انه رئيس شرفي لحكومة التبت في المنفى، مثلما اعتذر عن حضور اجتماعات حكومة المنفى التي تظهره زعيما جالسا على “كرسي حكم”، ولا يستغرب الكاتب والاديب صباح عطوان من ظاهرة الزعماء من دون كراسٍي للحكم، فيقول ان “المسؤول الكبير في النظم الديمقراطية هو موظف بدرجة ما، ينفّذ القانون”.
موخيكا ونجاد
ولم تظهر صور وسائل الاعلام، رئيس دولة الأوروغواي، خوسيه موخيكا، حاكما تقليديا، قدر ظهوره مواطنا من عامة الشعب، يقود سيارته القديمة، من دون حماية وإجراءات امنية، وفي كوخه الصغير، يحضّر الشاي، ويسقي النباتات، ويحرث الأرض.
كما لم يتبجّح موخيكا يوما ما، بنضاله وحمله السلاح في وجه النظام الدكتاتوري الذي حكم الأوروغواي سابقا، وان ذلك يستدعي منحه امتيازات، ومناصب. وبعد توليه الحكم في العام 2012، امعن في تواضعه، ومساعدته للفقراء والمحتاجين رغم انه كان يتقاضى راتبا شهريا قدره ( 12500) دولار، يتبرع بنحو تسعين بالمئة منه للفقراء، والمتبقي القليل منه وهو (1250) دولارا، ينفقها لنفسه.
ولم يلحظ متابعوه يوما، انه جلس على عرش السلطة، وفتح ابواب القصر الجمهوري امام المشردين لإيوائهم وأدار البلاد من الميدان، لا من خلف منضدة المسؤول، التي لطالما اغرت الزعماء، فاوقعتهم في شراك الترف والامتيازات.
وفي اطار ولادة الزعيم من بين الاحداث الكبرى، يرى مدير المكتب الإعلامي لمفوضية حقوق الانسان في بغداد، جواد الشمري، ان “الشعوب في الغالب تنتظر المنقذ الذي يحررها من الظلم والتسلط، متوقعة منه حل مشاكلها، والنزول الى الشارع لرصد معاناة الفقير، لا أن يراقب آلامها من شباك القصر”.
ويمثّل الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، انموذجا للزهد في ملذات السلطة، حيث يعيش في بيت صغير الحجم ورثه عن أبيه، أجره الشهري يعادل نحو 250 دولارا يتقاضاه بصفته أستاذاً في الجامعة، ولطالما ركب سيارة قديمة تعود إلى العام 1977، وكان قد فرض على الوزراء الجدد البقاء في مستواهم المعيشي، وأن يغادروا الوزارة كما دخلوها، ولم يستجب نجاد لإغراء كرسي الحكم، فابتعد عنه، نافرا من جاذبيته، الى عيشة البسطاء والكادحين.
تشافيز والبارزاني
توفي الرئيس الفنزويلي السابق هوغو تشافيز، في العام 2013، بعد مرحلة سياسية فريدة اصبح فيها الزعيم الشعبي الأول في أميركا اللاتينية، تعاطف فيها مع قضايا المستضعفين في العالم، ولم يُر في يوم متربعاً على كرسي السلطة، بقدر تواجده شبه الدائم بين العمال والفلاحين، ووقف بشكل واضح ضد اشكال الحكم ولعل هذا النوع من “الحالة التشافيزية” التي كانت عصيّة على “التدجين العولمي”، يحفز الكاتبة والقاصة صبيحة شبر، الى التأسّف على انحسار القادة الشعبيين في العالم، الذين ظللتهم كاريزما المعايشة الميدانية للشعب في الحروب والسلم، فتقول، ان “العالم أصبح يجري في فلك واحد ويسعى الى ارضاء عرّابي العولمة، وقد أثبتت الثورات الشعبية ان كل دولة لا يمكن ان تكون قادرة على بناء نفسها الا عن طريق السير على نهجها الوطني”.
والظاهرة التشافيزية في واقع الحال لم تتوقف، فهي مستمرة الى الان، بعدما حمل الراية نائبه نيكولاس مادورو، الذي كان سائق شاحنة، وحين تتمعّن في مكتبه الرئاسي لن تجد سوى منضدة مكتبية “بسيطة” وكراسي لا تجدها في قصور الحكم.
ويتحدث الاكاديمي رئيس الجمعية النفسية العراقية، د.قاسم حسين صالح، عن الزعامة والمواطنة فيقول ان “لدى السياسي والمثقف ترسبات ذات محتوى بارانوي، ازاء أحدهما الآخر، وفايروس اخطر افرزته ثقافة الضحية، ايقظ دافع اﻻنتقام”.
ومصطفى البارزاني (1903 – 1979)، زعيم كردي عاش في الجبال، وقاتل لأجل شعبه، وقاد الحركة الثورية الكردية للمطالبة بالحقوق القومية للكرد، فلم يعرف القصور، ولم يتربّع على دكة السلطة رغم زعامته الشعبية التي لم ينافسه احد فيها، وكان يرتدي الزي الشعبي الكردي، وبندقيته، ليضعه هذا المظهر و”اللوك” في صف الزعماء التاريخيين الذين قادوا نضالات الشعوب.
في هذا السياق يتحدث الشاعر والكاتب عباس الحسيني، عن حركة التأريخ التي تتغيّر، ويتغيّر معها مفهوما القيادة وطبيعة الامم، فيقول “الزعيم الشعبي في الشرق الأوسط، هو غيره في أوروبا والعالم، فالزعيم العراقي والعربي، تغلِّفه اطر القبيلة والدين والانتماء، وهو ما يغّير القيادة ويحيلها الى نمط محدود الإبداع ومحكوم بآفاق مادية وطوطمية ربما، فيما القادة الكبار والعظام عبر التاريخ، هم الذين حققوا الخروج من مخيلتهم الجمعية وتحرروا من رواسبهم ومرجعياتهم التقليدية، فحققوا حضورا كونيا وتاريخيا كغاندي ولينين ومانديلا وجيفارا”.
غاندي
وهذه الصفات التي أشار اليها الحسيني، تتجسّد في الزعيم الهندي غاندي، فلم يمتلك هذا القائد البسيط، المال، ولا النفوذ المادي، وأدار حرب بلاده ضد الفقر والاستعمار من مقعده على الأرض، مع المعدمين حتى بات يمتلك من الكاريزما، ما تعجز الاتيان بمثلها أموال الأرض وسلاطينها.
وهذا الرجل العريان و البسيط بلغ من السلطان ما مكّنه من الانتصار على الاستعمار البريطاني، وفي كلمة واحدة، عبّأ نحو اربعمائة مليون هندي مثل ساحر، لكنه لم يكن بساحر، قدر ايمانه بعدالة قضيته وترفعه عن الملذات والسلطان.
إنّ ظاهرة الزعماء من أمثال غاندي، تدفع الإعلامي ومقدم البرامج في تلفزيون “العراقية”، حيدر زوير، الى الحديث عن “الزعيم المالك لقلوب الناس، المؤمن بالإنسان وبالحب، ولم يفعل كل ما فعله من اجل ان يتبوأ منصبا معينا او للحصول على مكاسب”.
واعتبر زوير ان “الكون يتحرك بنظام اخلاقي، لا يضيع فيه العمل الصالح والصادق حتى وان تأخر الجزاء او الرد إلا ان حتمية كونية ستنتصر للصدق والصلاح، وان من الزعماء وغيرهم من الخالدين، هم مصداق لما نقوله”.
وفي صدد المقارنة، يتحدث الإعلامي والكاتب شيرزاد شيخاني، عن “الفروق بين زعامة الأمس واليوم”، فيقول ان “الزعامة بالأمس كانت زعامة الأمة وقيادتها نحو الاستقلال والتحرر وبناء المجتمع والعمل على رقيه، لذلك كان الزعيم هو زعيم الأمة، اما اليوم فقد اختلفت المعايير واقترنت الكثير من الزعامات الحديثة بالدكتاتورية والتفرد بكرسي الحكم”.