23 ديسمبر، 2024 1:49 ص

“رياضة الشطرنج الأخضر”.. أصولها وأطوارها التاريخية

“رياضة الشطرنج الأخضر”.. أصولها وأطوارها التاريخية

لكل منا تصوراته وانطباعاته ومفهومه الخاص عن رياضة كرة القدم، فكرة القدم هي روح وإثارة وفن جماعي يوائم العقليات والاتجاهات والأجناس والثقافات مهما اختلفت وتباعدت؛ خُلدت سيرتها في الحضارة الإنسانية، وحملت أسماءً وأوصافاً لا حصر لها، كالساحرة والمعشوقة والمدورة والقذيفة والمكورة ورياضة الشطرنج الأخضر، وأسماء أخرى.. واعتبر ديفيد جولد بلات في كتابه The Ball is Round: A Global History of Soccer كرة القدم: “ضوءاً يوفر التألق الفردي، والتحدي في قلب المسعى الجماعي”، لكونها الرياضة الشعبية الأكثر شهرة على مرّ الأزمان، إذ تطورت وتنوعت ممارساتها، واحتفظت بمكانتها في حياة الناس رغم مرور الوقت وتنوع الأماكن والثقافات؛ قَبَّلها البرازيلي بيليه في استاد ماراكانا عندما سجل هدفه رقم ألف، وأقام لها الأرجنتيني ألفريدو دي ستيفانو نصباً عند مدخل بيته، وكان عبارة عن كرة من البرونز مع لوحة حجرية نُقش عليها عبارة “شكراً أيتها العجوز”.

أصول كرة القدم
أصول كرة القدم هي تاريخ من المعتقدات والرموز، التي تأتت من الحضارات، فاستنبطت وصُقلت وشذّبت، وانتقلت من طور بدائي إلى طور حداثي بعد تغييرات كثيرة في القوانين والأنظمة، لتكون على الشكل التي يستأثر باهتمام الناس جميعاً. وتؤكد المرويات التاريخية، ومن بينها “كرة القدم بين الشمس والظل” للكاتب الأورغواياني إدوارد غالياني، أن أول شعب لعب رياضة كرة القدم البدائية هم الصينيون، فمنذ خمسة آلاف سنة كان البهلوانيون الصينيون يُرقّصون الكرة بأقدامهم، وكان أن نظمت أول ألعاب الكرة في الصين، وكان المرمى في الوسط، وكان اللاعبون يسعون ألا تلمس الكرة الأرض، دون أن يلمسوها هم أنفسهم بأيديهم، وهو ما عثر عليه الباحثون الأثريون في المنحوتات الجدارية التي تُظهر صينيي سلالة مينغ. وكشفت سجلات اللعبة خلال عهد أسرة هان (206 ق.م – 220 م) عن أنها تمرين عسكري للجنود، وخلالها كان الصينيون يقدمون الولائم للفريق الفائز، ويعاقبون الفريق المنهزم.
من جهة ثانية، وحسب “football history”، عُرفت أول لعبة كرة قدم في الصين خلال القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد تحت اسم “سو جو”، وهي كرة مستديرة مصنوعة من جلد مخيط بالفراء أو الريش. وبعد ذلك انتشرت اللعبة في اليابان باسم “كيماري”، وكانت طريقة يتبعها الجنود للتسخين قبل التدريب العسكري الخاص بهم، وأصبحت جزءاً من طقوس الخصوبة الموسمية عند اليابانيين.
ومن المعروف أن المصريين القدامى كانوا يتسلون بتبادل ركل الكرة، وعثر على رخام قبر إغريقي قبل الميلاد بمئات السنين يظهر رجلاً يلاعب كرة بركبته، كما كان الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر يتفنن في استخدام كِلتا ساقيه في لعب الكرة. ويروي مؤرخو البلاط الملكي الإسباني أن هيرنان كورتيس قذف كرة مكسيكية، وجعلها تطير عالياً جداً أمام عيني الإمبراطور كارلوس الزائغتين.
إن أول الأمثلة المعروفة للعبة الفريق التي تتضمن كرة مصنوعة من صخرة نجدها في ثقافات أمريكا الوسطى منذ ألف سنة قبل الميلاد، وقد كان من قبل الأزتيك باسم Tchatali، وكانت لها مكانتها في المناسبات الطقسية، فهي ترمز إلى الشمس والخصوبة والفداء، وحسب معتقداتهم تتم التضحية بقائد الفريق الخاسر، وتقديمه قرباناً للبركة والتطهر أمام الآلهة.
بريطانيا مهد كرة القدم الحديثة
في عام 1314م، مَهرَ الملك الإنجليزي إدوارد الثاني بخاتمه وثيقة ملكية تُدين هذه اللعبة الرعاعية والصاخبة، حيث كانت كرة القدم تخلف الكثير من الضحايا، إذ كانوا يتنافسون في جماعات كبيرة، ولم يكن هناك تحديد لعدد اللاعبين ولا لمدة اللعب ولا لأي شيء آخر؛ يدفعونها بالأقدام والقبضات نحو الهدف الذي كان في ذلك الحين عجلة طاحونة قديمة.
وفي عام 1349م، ضم الملك إدوارد الثالث كرة القدم إلى ألعاب الحماقة التي لا فائدة منها، وعثر على مرسوم ضد كرة القدم ممهور باسم الملك الإنجليزي هنري الرابع عام 1410م، وهنري السادس عام 1547م. وهددت الملكة إليزابيث الأولى (1533-1603) بسجن لاعبي كرة القدم أسبوعاً. ومع ذلك لم تستطع القوانين إيقاف تلك الإثارة والحماس للعبة، وفي عام 1681، أعيدت كرة القدم إلى وضعها السابق وارتفعت شعبيتها.
وفي عام 1846م، تأسست “قواعد اللعبة” في جامعة كامبريدج، وهناك تم الطلاق النهائي بين كرة القدم ورياضة الركبي، حيث مُنع حمل الكرة باليد، مع أنه كان مسموحاً لمسها، ومُنع كذلك توجيه الركلات إلى الخصم، فـركلات الأقدام يجب أن توجه إلى الكرة فقط. وقد سيطرت فرق المدارس العامة على كرة القدم، غير أن رياضة كرة القدم في شكلها الحديث تنحدر من “اتفاق جنتلمان” بين اثني عشر نادياً إنجليزياً توصلوا له في خريف 1863م في إحدى حانات لندن، وقد تبنت تلك الأندية القواعد التي أقرتها جامعة كامبريدج. ونتج عن الاجتماع أيضاً توحيد حجم ووزن الكرة، وتوحيد عدد اللاعبين في الملعب، وتوحيد زي اللعب لمعرفة أعضاء الفريق الأول من الثاني، ولكن لم تكن الكأس جزءاً من اللعبة آنذاك.
ويعتبر نادي شيفيلد الإنجليزي أول نادي كرة قدم في التاريخ، وتأسس في 24 أكتوبر 1857م. وكان الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم أول اتحاد كروي يؤسس في العالم عام 1863، وأول شخص مارس لعبة كرة القدم بعد تطويرها يُدعى وليام هيفيل فينجر، وقد بدأ باللعبة عام 1867م. ومع مرور الوقت انضم عدد من النوادي إلى الاتحاد الإنجليزي حتى وصلت إلى 128 نادياً كروياً بحلول عام 1887م.
ولاحقاً، كانت الفرق المكونة من العمال تشكل أغلبية اللاعبين، فالخطوة الأولى لظهور الفرق هي التصنيع الذي أدى إلى اجتماع مجموعات أكبر من الناس في أماكن مثل المصانع والسكك الحديدية والحانات والأماكن العامة. وبعد ذلك لعب الجميع كرة القدم، ومن ضمن ذلك الشخصيات البارزة والنبلاء؛ مثل أوليفر كرومويل ووالتر سكوت وبعض ملوك إنجلترا.
وعلى الرغم من أن الرجل الأبيض هو من بدأ باللعب، فإن اللاعبين السود لم يتأخروا بالانضمام إلى اللعبة في بريطانيا، ومن المعروف أن أندرو واتسون هو أول لاعب أسود، والذي لعب في نادي كوينز بارك الاسكتلندي في ثمانينيات القرن التاسع عشر الميلادي. وكما هو الحال مع العديد من الأنشطة الإنسانية القديمة، استبعدت النساء مدة طويلة من المشاركة في الألعاب، حتى أقيمت أول مباراة رسمية للسيدات في إينفيرنيس ببريطانيا عام 1888م (الأبيض، 10،11/2022).
وتعتبر أول المباريات على الكأس هي مباراة (كأس الاتحاد الإنجليزي) عام 1871، وفي العام التالي لُعبت مباراة بين فريقين وطنيين لأول مرة، وهي المباراة التي ضمت إنجلترا واسكتلندا، وانتهت بنتيجة 0-0. وفي عام 1883، أقيمت أول بطولة دولية ضمت أربع منتخبات وطنية: إنجلترا وإيرلندا واسكتلندا وويلز.
انتشار رياضة كرة القدم
كانت كرة القدم لفترة طويلة خاصية إنجليزية، ولم يستغرق الوقت طويلاً بالنسبة إلى الدول الأوروبية الأخرى لتَبنّي العشق الإنجليزي لكرة القدم، فبدأت أولى بطولات الدوري في هولندا والدنمارك عام 1889، وفي الأرجنتين عام 1893، وفي شيلي في عام 1895، وفي سويسرا وبلجيكا في عام 1895، وفي إيطاليا عام 1898، وفي ألمانيا والأوروغواي في عام 1900، وفي المجر عام 1901، وفي فنلندا عام 1907، وفي فرنسا عام 1903م.
والجدير بالذكر أنه في أوج التوسع الإمبراطوري البريطاني، تحولت كرة القدم إلى سلعة بريطانية للتصدير لا تقل شهرة عن أقمشة مانشستر أو قروض مصرف باريتغز، فوصلت اللعبة إلى أمريكا اللاتينية مع أقدام البحارة الإنجليز الذين كانوا يمارسونها على أرصفة ميناءي بوينس آيرس ومونتفيديو. وقد جرت أول مباراة خارج القارة العجوز في الأورغواي عام 1889م بين إنجليزيي مونتفيديو وبوينس آيرس، تحت صورة ضخمة للملكة فيكتوريا (ملكة بريطانيا العظمى).
وفي عام 1892م، كانت أول مباريات كرة القدم البرازيلية التي تنافس فيها مواطنون بريطانيون يعملون في شركة الغاز وسكك حديد ساو باولو. وتحولت تلك اللعبة من لعبة إنجليزية داخل القارة اللاتينية إلى لعبة شعبية لعبها الناس على الشواطئ، وفي الأزقة، وفي الحقول والمناجم، وتحولت إلى هوىً شعبي في القارة اللاتينية بعد تكشف جمالها السحري وإثارتها والولع بها، وخطف اللاتين الأضواء في حيازة الاهتمام الكروي، حتى عادت إلى الأندية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، ليبدأ الأفارقة والعرب باحتضانها في الوقت الراهن.
توحيد معايير كرة القدم
ولدت كرة القدم المطاطية التي تُنفخ بمنفاخ، والمغطاة بطبقة من الجلد، في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، وذلك بفضل عبقرية تشارلز غوديير، وهو أمريكي شمالي من كونيكتيكت، وبفضل عبقرية وتسوليني وبالبونسي وبولو، وهم ثلاثة من المحترفين الكرويين الأرجنتينيين.
ووفق كتاب “كرة القدم بين الشمس والظل”، ظهر الحَكَم الرياضي في عام 1872، وكان اللاعبون حتى ذلك الحين هم حُكام أنفسهم، وفي عام 1880 كان الحَكم يحمل جهاز توقيت في يديه ليقرر متى تنتهي المباراة. وفي عام 1891م، ولحماية اللاعبين من الضربات والكسور، اعتُمدت لأول مرة مخالفة ضربة الجزاء، وذلك بعد أن خطا الحكم نحو 12 خطوة محدداً نقطة توجيه الضربة ومسافتها عن مرمى الخصم.
وترسخت المعايير القانونية لكرة القدم مع تشكيل الاتحاد الدولي لكرة القدم FIFA عام 1904، كهيئة رياضية دولية مستقلة عن اللجنة الأولمبية الدولية التي كانت تستحوذ عليها إنجلترا حتى ثلاثينيات القرن العشرين في أولمبياد عالمي دوري، فأقرت الفيفا بطولة مستقلة عن الأولمبياد باسم “كأس العالم” كل أربع سنوات. وفي عام 1930م، عقدت لأول مرة البطولة في الأوروغواي، والتي بدأت بفكرة ابتكرها الفرنسي جول ريميه رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، حيث كان هناك 41 عضواً في FIFA حينذاك، ولكن في الوقت الحالي هناك أكثر من 211 اتحاداً وطنياً ضمن الفيفا، فكانت هذه البطولة إعلان نهاية الاحتكار الإنجليزي للعبة كرة القدم العالمية.
وقسمت مناطق العالم إلى ست اتحادات: الاتحاد الإفريقي لكرة القدم”CAF”، والاتحاد الآسيوي لكرة القدم “AFC”، واتحاد الاتحادات الأوروبية لكرة القدم “UEFA”، واتحاد أمريكا الشمالية والوسطى والكاريبي لكرة القدم”CONCACAF”، واتحاد أوقيانوسيا لكرة القدم”OFC”.
شهدت السنوات التي أعقبت ظهور كرة القدم بشكل منتظم تغيرات عدة في قوانينها، حيث تم استعمال الشباك في المرمى عام 1925، واللعب بلون موحد بين لاعبي الفريق الواحد، وفي 1937 روجعت خطوط الملعب، ورُسم قوس خارج منطقة الجزاء ليتساوى اللاعبون في المسافة نفسها عن الكرة عند تنفيذ ركلة الجزاء. وبعد مونديال فرنسا 1938 صار بالإمكان ضرب الكرة بالرأس دون خوف من الأذى، والذي كان يسببه الرباط المستخدم سابقاً في ربط الكرة.
واستمر تطور كرة القدم وتغيير قوانينها، حيث أصبح زي اللاعب مكوناً من بنطلون (شورت) وقميص وجوارب وحذاء رياضي وواقٍ للساقين، مع إضافة القفازات لحارس المرمى. وفي 2018، وبعد تجربة واسعة النطاق في عدد من المسابقات الكروية الكبرى، أضيفت تقنية حكم الفيديو المساعد (فار) رسمياً إلى قوانين لعبة كرة القدم، بعد استشارة الإيطالي كولينا، وهو أشهر حكام كرة القدم عبر التاريخ. وفي 2020 أقر الفيفا السماح لكلٍّ من الفريقين بـخمس تغييرات إثر تفشي وباء كورونا في العالم.
كوارث وفواجع في مباريات كرة القدم
رغم انتظام كرة القدم وفق قواعد تحكيمية ودولية ووطنية صارمة، وتطور الرياضة عبر مراحل متتابعة، فإن هذه الرياضة سببت كوارث وحروباً لا تزال آثارها قائمة. ومن أبرز تلك الكوارث في رياضة كرة القدم:
أعمال الشغب في كرة القدم التي أسفرت عن سقوط 318 قتيلاً، وإصابة أكثر من 500 مشجع بالاستاد الوطني في عاصمة البيرو ليما في مايو 1964، وذلك نتيجة إلغاء مباراة جمعت منتخب بوليفيا مع المنتخب الأرجنتيني، ما سبب إثارة غضب الجماهير، وتدخلت قوات الأمن بإلقاء قنابل دخان على المدرجات، وكانت الأبواب موصدة، ما أدى إلى سقوط المئات بسبب التدافع والاختناق.
حرب كرة القدم، أو “حرب المائة ساعة”، التي نشبت بين هندوراس والسلفادور ضمن تصفيات كأس العالم بالمكسيك، وقد كانت بين الدولتين مشاكل حدودية.
وعندما خاض المنتخبان مباراة فاصلة وسط أجواء عدائية بينهما، في 26 يونيو 1969، على ملعب “أزتيكا” بالعاصمة المكسيكية، فازت السلفادور بنتيجة 3-2 في الوقت الإضافي، وتأهلت إلى الدور النهائي للتصفيات. وعقب ذلك تظاهر جمهور هندوراس غاضباً في الشوارع، واعتدى على المواطنين السلفادوريين المقيمين في بلدهم، ليضطر معظمهم إلى الفرار للسلفادور تاركين ممتلكاتهم. وفي اليوم نفسه اتخذت السلفادور قراراً بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع هندوراس؛ بدعوى أن هذه الأخيرة لم تتخذ أي إجراءات فعلية للتعويض أو معاقبة مرتكبي هذه الجرائم، وتلك كانت فرصة حكام السلفادور الذين كانوا يملكون قوات عسكرية أضخم لغزو هندوراس، ووصلوا إلى أطراف العاصمة، في 14 يوليو 1969م، وخلفت الحرب نحو 3000 قتيل عسكري ومدني، و15 ألف جريح ومشرد، وخسائر مادية في البيوت والمنشآت وصلت إلى نحو 8 مليارات دولار، وتوقفت العلاقات والحركة التجارية بين الدولتين بعد إغلاق الحدود بينهما، حتى عادت برعاية محكمة العدل الدولية عام 1980، والتقى منتخبا البلدين بعد ذلك في عدة مباريات رسمية دون وقوع أي مشاكل في المدرجات أو خارجها، كما نجح الفريقان في التأهل معاً لكأس العالم في إسبانيا عام 1982.
في الأرجنتين، سقط 74 قتيلاً دهساً تحت الأقدام، وأُصيب أكثر من 150 مشجعاً، في مباراة بين فريقي ريفر بليت وبوكا جونيورز عام 1974، نتيجة تدافع جماهيري من إحدى البوابات المغلقة.
في عام 1982 سقط 340 قتيلاً خلال مباراة بالبطولة الأوروبية، وذلك بين سبارتاك موسكو الروسي وهارليم الهولندي، وذلك حينما أجبرت الشرطة المشجعين على الخروج من الملعب خلال الدقائق الأخيرة عبر أحد الأنفاق الضيقة، لكن إحراز هدف في الدقيقة الأخيرة دفع المئات لمحاولة العودة إلى الملعب من جديد، ليسقطوا تحت الأقدام بسبب التدافع في اتجاهات مختلفة.
من أشهر حوادث العنف وأكثرها دموية بالنظر إلى حجم الاشتباكات، تلك الأحداث التي سبقت المباراة النهائية للبطولة الأوروبية بين يوفنتوس الإيطالي وليفربول الإنجليزي عام 1985، أي بين جمهوري الفريقين، في ملعب هيسيل بالعاصمة البلجيكية بروكسل، وهو ما أعقبه انهيار حاجز فاصل، ما أدى لسقوط 39 قتيلاً أكثرهم من الإيطاليين، وحُرمَت الفِرق الإنجليزية على أثر ذلك الحادث من المشاركة في البطولات الأوروبية لمدة خمسة أعوام.
شهدت مصر مذبحة دامية لم يتوقع أحد أن يكون مسرحها ملعباً رياضياً، وذلك خلال مباراة كرة قدم في الدوري المحلي بين فريقي الأهلي والزمالك في مدينة بورسعيد، وقد راح ضحيتها 72 مشجعاً للنادي الأهلي في 1 فبراير 2012.
استفاق العالم، صباح تاريخ 2 أكتوبر 2022م، على خبر مفجع، بعد أن لقيَ أكثر من 174 مشجعاً مصرعهم، عقب أعمال شغب حدثت عندما اجتاح آلاف المشجعين ملعباً لكرة القدم، بعد مباراة في الدوري المحلي في جزيرة جاوة الشرقية الإندونيسية، وقامت السلطات بعدها بهدم الملعب وتفكيكه.
– كرة القدم بين الحرب والسياسية
في صيف عام 1916م، وفي أوج الحرب العالمية الأولى، شن النقيب الإنجليزي نيفيل هجومه على الألمان، وهو يشوط كرةً، وانطلق يركض وراء كرةٍ متقدماً الهجوم باتجاه الخنادق الألمانية، ولحقت به فرقته التي كانت مترددة، فقد قُتل النقيب بقذيفة مدفع، ولكن إنجلترا استولت على تلك الأرض، واستطاعت أن تحتفل بالمعركة، باعتبارها أول انتصار لكرة القدم الإنجليزية في جبهة حرب.
كما كانت كرة القدم بالنسبة إلى النازيين الألمان مسألة كرامة وأمن دولة، تدلل على ذلك حادثة في أوكرانيا خُلدت بنصب تذكاري يذكر بلاعبي فريق دينامو كييف عام 1942م، ففي أوج الاحتلال الألماني اقترف أولئك اللاعبون حماقة بإلحاق الهزيمة بمنتخب النازيين في الملعب الأوكراني، وكان التحذير الألماني: “إذا ربحتهم ستموتون جميعاً”، وكانوا يرتجفون من الخوف والجوع بأرضية الملعب، ومصممون على الخسارة، ولكنهم لم يستطيعوا كبح رغبتهم في خوض المغامرة بتحدٍّ وصمود، ونتيجة فوزهم أُعدم اللاعبون الأحد عشر وهم بقمصان اللعب عند حافة هاوية بعد انتهاء المباراة مباشرة.
وفي عام 1958م، وخلال ثورة التحرير الجزائرية، شكلت الجزائر منتخب كرة قدم ارتدى لأول مرة قميصاً بألوان العلم الوطني، وقد تألف الفريق من اللاعبين مخلوفي وبن طيفور، وجزائريين آخرين كانوا محترفين في كرة القدم، ولكن الحصار الذي فرضته فرنسا حال دون تمكن الجزائر من اللعب إلا مع المغرب، الذي تعرض بسبب هذه الخطيئة إلى الإبعاد من الفيفا لعدة سنوات، ولعب عدداً من المباريات الأخرى التي نظمتها الجمعيات الرياضية في المنطقة العربية وأوروبا الشرقية.
وفي أوج كرنفال الفوز بمونديال 1970م، منح ديكتاتور البرازيل الجنرال ميديشي نقوداً للاعبين، ووقف أمام المصورين وهو يحمل الكأس بين يديه، ومضى أبعد من ذلك حين ضرب كرةً برأسه أمام الكاميرات، وعندما فازت الأرجنتين في مونديال 1978م، استخدم الجنرال فيديلا صورة كيمبيس المندفع كإعصار لأهداف مماثلة تماماً، وفي تلك الأثناء كان الجنرال بين وشيت، الآمر العسكري الأعلى في تشيلي، قد عين نفسه رئيساً لنادي كولو كولو، وهو أوسع أندية البلاد شهرة وشعبية.
وفي أواخر القرن العشرين، كسب صاحب نادي ميلان الانتخابات الإيطالية تحت شعار: “قوة إيطاليا”، والمأخوذ من مدرجات ملاعب كرة القدم، ولقد وعد سيلفيو بيرل سكوني بإنقاذ إيطاليا مثلما أنقذ نادي ميلان بطل إيطاليا.
من هم أسياد الكرة؟
تمتلك الفيفا عرشاً وبلاطات في زيوريخ بجانب اللجنة الأولمبية الدولية التي تحكم في لوزان، ومعهما مؤسسة الإعلان ISL ماركتنغ التي تنسج لهما تجارتهما من لوسرن، وتملك ماركتينغ حتى نهاية القرن العشرين الحق الحصري ببيع الإعلانات في الاستادات والأفلام وأشرطة الفيديو وتمائم المنافسات الدولية، وهذه التجارة تتبع لورثة أدولف داسلير مؤسس شركة أديداس، وهو أكبر منتج للأدوات الرياضية في العالم. وفي أواخر عام 1994م، وفي نيويورك، اعترف رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم البرازيلي جوا هافيلانج (1974 – 1998م) بالحقيقة حين قال: “يمكنني أن أؤكد أن الحركة المالية لكرة القدم في العالم تصل إلى مبلغ 225 ألف مليون دولار”، وأضاف: كرة القدم سلعة تجارية يجب تسويقها بأكبر حكمة ممكنة.
وفي اليابان، حيث اشتهرت كرة القدم الاحترافية، أخذت الشركات الكبرى بتأسيس الأندية، وتعاقدت مع نجوم عالميين انطلاقاً من قناعتها بأن كرة القدم هي لغة عالمية، يمكنها أن تسهم في ترويج منتجاتها في العالم كله، حيث أنجبت شركة تويوتا نادي ناغويا غرامبوس، ووقع اللاعب المخضرم زيكو عقداً مع نادي كاشيما الذي ينتمي إلى مجموعة سوميتومو الصناعية وشركات نيسان وميتسوبيشي والخطوط الجوية اليابانية.
هل كرة القدم أفيون الشعوب؟!
عندما لم تعد كرة القدم شيئاً خاصاً بالإنجليز والبرجوازيين، ولدت في الأرجنتين والأوروغواي أول الأندية الشعبية، فجرى تنظيمها في ورش السكك الحديدية وترسانات الموانئ، وفي ذلك الوقت استنكر بعض القادة الاشتراكيين هذه الآلية البرجوازية لمنع الاضطرابات وللتستر على الطبقية الاجتماعية، فانتشار كرة القدم في العالم برأيهم مؤامرة إمبريالية للإبقاء على الشعوب المقهورة متخلفة في طور الطفولة. ومع ذلك فإن نادي جونيورز الأرجنتيني بدأ أول الأمر باسم نادي شهداء شيكاغو، تكريماً للعمال الذين شُنقوا في أول مايو، وخفت صوت مثقفي اليسار، وصاروا يحتفلون بكرة القدم بدلاً من ازدرائها كمخدر للوعي، ومن بينهم الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي امتدح كرة القدم واعتبرها: “مملكة الوفاء البشري، وهي التي تُمارس في الهواء الطلق”.
واعتبر بعض المفكرين والعلماء المسلمين رياضة كرة القدم جزءاً من المؤامرة التي خطط لها الغرب والصهاينة ضد الأمة، فاقتبس الدكتور عباس محمود العقاد النص (13) من بروتوكولات حكماء صهيون، والتي نشرت لأول مرة في روسيا القيصرية عام 1903م: “إنما نوافق الجماهير على التخلي والكف عما تظنه نشاطاً سياسياً إذا أعطيناها ملاهي جديدة، داعين الناس إلى الدخول في مباريات شتى في كل أنواع المشروعات والرياضة وما إليهما، وهذه المتع ستلهي ذهن الشعب حتماً عن المسائل التي سنختلف فيها معه”. وبناء عليها اعتبرت كرة القدم (الساحرة المستديرة) من المتع التي تشغل أذهان الشعوب، وتنهك طاقات الأمة وتبددها، ورغم أن الكرة ليست الميدان الاستراتيجي للنهضة والتقدم، فإن هناك مبالغة كبيرة حين نعتبر أن مخاطر كرة القدم تمس جوهر العقيدة والولاء والبراء لدى شبابنا، كما جاء في جريدة الرياض في مقال عنوانه “أضخم مؤامرة في تاريخ البشرية” بأن الصهيونية جندت الحجر والبشر للتآمر على المسلمين لنسف الولاء والبراء عندهم عبر إغراقهم بحب اللاعبين الكبار وتسويق شعارات النوادي العالمية ومنتجات الشركات الرياضية، فالرياضة ثقافة جماعية، وفضاء لتحقيق الرغبات المالية والسياسية والأمنية دون شك، ولكنها هوىً شعبي لها حظها الوافر في سعادة الشعوب وعلاقة الأمم في ما بينها، وهو ما عبّر عنه العرب في مونديال قطر عبر الاعتزاز بهويتهم ورفع علم فلسطين والثورات العربية في الميادين، ومرونة التلاقي مع أبناء المجتمعات الإنسانية، في فرصة للتعريف بالإسلام والثقافة والقيم والأخلاق العربية؛ لتغيير الصورة النمطية والعداء التقليدي الذي استشرى بين الشعوب، وخاصة بين الغرب والمسلمين، على مر الأزمان.

المستديرة الساحرة وقدرتها العنيدة على الإدهاش وتفجير طاقة السعادة هي الميدان خلقت هوية جماعية: أنا ألعب وأفوز إذن أنا موجود. فأسلوب اللعب هو طريقة في الحياة يعكس التصور الخاص لكل مجتمع، ويؤكد حقه في التألق، فهو تماثل إجباري بين المتنافسين، وإيقاع اجتماعي منقطع النظير، فمع انتهاء مونديال 1994م وفوز البرازيل على الأراضي الأمريكية، أُطلق اسم روماريو على جميع الأطفال الذين ولدوا في البرازيل آنذاك، وبِيع عشب استاد لوس أنجلس مجزأً في قطع صغيرة مثل البيتزا بعشرين دولاراً للقطعة الواحدة، وهذا هو الجنون الجدير بالتأمل والدراسة، ولا نقتصر في حديثنا على التحايل والإلهاء والتجارة المبتذلة، ونجلد ذاتنا في كل فرصة تنفست فيها أمتنا الصعداء.

 

المراجع:
إدواردو غاليانو، كرة القدم في الشمس والظل، ترجمة صالح علماني، مونتفيديو، 1995م.
شيماء الأبيض، كانت حكراً على البيض والطبقة العاملة ومنعت لدة قرون بسبب الوفيات … تاريخ كرة القدم، موقع عربي بوست، 10/ 11/ 2022م، رابط: https://2u.pw/w4CyHJ
موقع الجزيرة نت، كيف بدأت كرة القدم؟ … رحلة الساحرة المستديرة من البدايات إلى “معشوقة الجماهير”، موقع الجزيرة نت، 3/10/2022. رابط: https://2u.pw/PMVXPu
تاريخ جذور كرة القدم … فيلم وثائقي مميز، 30/12/2011، موقع يوتيوب، راجع: https://2u.pw/xbOyvr
حرب كرة القدم بين هندوراس والسلفادور، 23/2/2016. رابط: https://2u.pw/3icpkI
آخرها بإندونيسيا… فواجه ومآسي حزينة في تاريخ كرة القدم، 2/10/2022م، انظر: https://2u.pw/Tu3tv2
موقع توعية، كرة القدم.. أصلها وفصلُها، 10/1/2020م، رابط:https://2u.pw/N1fbnV