23 ديسمبر، 2024 1:51 ص

روح بغداد وأرواح محبيها

روح بغداد وأرواح محبيها

أذهب الى موقع عملي قرب ساحة الشهداء مبكرا صباحا قبل بداية الدوام تجنبا لازدحام الطرق , ساحة الشهداء تقع على جانب الكرخ من جسر الشهداء الواصل بين الكرخ والرصافة .اتمشى الهوينا, اعبر الجسر متمهلا استنشق هواء الصباح حيث يكون هواء بغداد في هذا الوقت منعشا ولم يتلوث بعد بسبب الازدحام وحركة السيارات. اتأمل نهر دجلة الجاري على مدى ألاف السنين لم يستطيع احد ايقافه من البغاة والمتجبرين والمحتلين ,لا يهمه من يحكم بغداد ,مرعليه ألاف الحكام ولم يهتم بهم .اتأمل اسراب الماشين عبورا للجسر من الطلبة والكسبة والموظفين وهم يسارعون الخطى لاعمالهم ومشاويرهم ,أهتم بدجلة فهو (بغداد هبة دجلة) كما يقول المصريون (مصر هبة النيل ). ارى بعض الزوارق ترسوا على الجانبين حيث يفضل البعض عبور النهر بالزورق للاستمتاع بجمال النهر .ارى شابين يرتديان بدلات جديدة (قاط) يصوران نفسيهما وهما يقفان بجوار محجر الجسر بكاميرات الموبايل يبدو أن لديهما حفلة تخرج ,ففي هذه الايام تكثر حفلات تخرج الكليات والمعاهد ومن المعتاد ان ترى الشباب يرتدون البدلات وهم ذاهبين لحفلات التخرج.اشاهد بعض النساء وبعض الرجال الذين يتخذون من الرصيف على جانبي الجسر مواقع عمل لهم, أما كباعة لحاجات بسيطة كالسكائر والعلك او للاستجداء وهم اشخاص يعرفهم العابرون اليوميون بوجوههم وبعباراتهم التي اعتادوا استعطاف الناس بها طلبا للمساعدة .بعض النساء يستخدمن اطفال معهن لزيادة استعطاف العابرين .اصل نهاية الجسر من جانب الرصافة حيث مدخل سوق السراي وهو سوق القرطاسية ,يكون الباعة في هذا الوقت بدأوا بفتح محلاتهم واجراء التنظيف اليومي للمحلات ,بعض المحلات لاتزال مغلقة . السوق مبني على الطراز القديم بالطابوق البغدادي التراثي واعادت امانة بغداد ترميمه في الثمانينات من القرن الماضي ,بدات محلات اخرى تمتهن غير القرطاسية تفتتح نشاطاتها في السوق كمحلات الهدايا والموبايلات والتابات والانتيكات والحقائب ولوحات الاعلانات وبسطيات تصليح اقلام الحبر القديمة من طراز باركر وشيفرزالمعروفة وبسطيات باعة السبح والخواتم .امشي في الشارع براحتي حيث لم يحل الازدحام بعدُ في هذا الوقت ,فبعد ساعتين من هذا الوقت يصبح من الصعب المسير في السوق دون ان تحتك بالسائرين لضيق ممر المشاة بين المحلات على الجانبين حيث لا يتعدى المترين او اقل ,اضافة الى عربات الدفع اليدوي التي تنقل البضاعة من والى السوق مما يضطرك الى الوقوف مرارا خوفا من تصطدمك احداها . اصل نهاية السوق حيث يقع محل كبة السراي على يمين السوق مقابل مقهى الشابندر وقد طور صاحب المطعم مطعمه على ضيقه وو ضع بعض الكراسي خارج المحل وداخله وارى الزبائن يتناولون فطورهم الصباحي والمكونة من صحن من الشوربة الذي توضع فيه عدد من الكبايات حسب طلبك مع الصمون وهو من اشهر واقدم محلات الكبة في بغداد ويضرب المثل بكبة السراي ,اشاهد عربات يدوية محملة باكياس الكبة تم جلبها للمحل ,من المعتاد ان يستمر المحل بالعمل الى ان يكمل وجبة الغداء ويغلق مع غلق السوق بعد الظهر .امر بمقهى الشابندر تكون مفتوحة عادة في هذا الوقت وصاحبها الخشالي يجلس في المدخل مع بعض اصدقائه, فقد هذا الرجل ابناءه في انفجارات شارع المتنبي قبل سنوات ولا يزال يعلق صورهم على جدران المقهى.ادلف الى جهة اليسار حيث المركز الثقافي البغدادي الذي انشأته محافظة بغداد قبل عدة سنوات وهو متنفس ثقافي لكثير من الناشطين الثقافيين يفتتح للرواد يوم الجمعة من الصباح حتى بعد الظهر حيث تقام نشاطات ثقافية داخل قاعاته كالمحاضرات واللقاءات الادبية واللقاءات الصحفية لبعض الفضائيات ويستغله بعض السياسيين هذه الايام لعرض وجوههم على الجمهور من المرشحين للانتخابات ,كما يستغل الحدائق على الجانب الايمن بعض الفنانين لعرض اللوحات وورسم الرسومات البورتريه التي يرسمونها لوجوه المارين لقاء ثمن كما تُعرض بعض المشغولات اليدوية ويقوم بعض الموسيقيين والفرق الشبابية باستعراض مواهبهم داخل الحدائق و يقوم بعض الناشطين بعرض اراءهم امام الجمهور . اصل الى تمثال المتنبي الذي يقع على شاطيء النهر أسلم عليه بتحية الصباح , ومن يستحق ان ينصب له تمثال على شاطيء دجلة اكثر من المتنبي وهو عاش ومات مفتخرا ويكاد يتفق العرب جميعا ادباءهم وجمهورهم على أنه اكبر شاعر في تأريخ العرب . اتمشى الى أن اقف على حاجزالشاطيء ولبضع دقائق (اشحن روحي من روح دجلة ومن روح بغداد كما اعتدت كل صباح خصوصا عندما اشعر بهبوط الشحن بسبب ضغوطات الحياة اليومية) .ثم اعود بالاتجاه المعاكس نحو مقهى الشابندر, ليس من عادتى الجلوس في المقهى في هذا الوقت . استمر في التمشي حيث مكتبات شارع المتنبي على الجانبين,لايزال الشارع هادئا حيث بعض العابرين القاصدين اعمالهم وبعض الباعة بدأوا بفتح محلاتهم ومكتباتهم وبعض العربات التي تبيع العصير اوالمكسرات (او الجرزات كما يسميها اهل بغداد ),هناك رجل كبير السن تتوسط عربته الشارع امام احدى المكتبات الكبيرة اقصده يعصر لي قدحا كارتونيا من الجزر ,لا اتناول من الباعة المتجولين العصير الا في اقداح كارتونية منعا للتلوث لصعوبة تنظيف الاقداح الزجاجية, ارتوي بكأس العصير الصباحي انقده ثمن العصير بعد ان اتبادل معه بعض العبارات الصباحية اودعه واستمر في طريقي حتى نهاية شارع المتنبي حيث يتقاطع مع شارع الرشيد .يختلف الوضع هنا حيث شارع الرشيد يزدحم منذ الصباح بالمارة والباعين والعربات وسيارات التاكسي ,ادلف الى اليمين باتجاه تمثال الرصافي وقبل ان اعبر باتجاهه اقصد رجلا كبيرا يصبغ الاحذية اعطيه حذائي واقف الى جانبه الى ان يكمل عمله ارفض ان اصبغ حذائي وقدمي فيه كما اعتاد صباغو الاحذية وزبائنهم كوني ارى المنظر مهينا لي قبل ان يكون له . اعبر الى تمثال الرصافي واسلم عليه ,اكاد اكون متاكدا انه يفخر وهو في العالم الاخر بمنظر تمثاله وهو يتوسط بغداد حيث عاش حياته في مكابدة بسبب الفقر وعدم التقدير ولم ينل الاعتبارالمعنوي الا بعد مماته وقيام الدولة بنصب تمثاله في هذه الساحة ,وتسمية الساحة بأسمه ,في مدينته التي اخذ لقبه من رصافتها, وهويستحق ذلك لأنه من اهم رموز المدينة العريقة .في بغداد اغلب النصب اقيمت لسياسيين او قادة او شعراء اونصب عامة (اي ليست لاشخاص) ,ولا اعرف تمثالا لعالم او فنان او رياضي او مفكر او باحث او طبيب او مهندس ,لكون العرب والعراقيين أمة لاتهتم بالعلم والفنون ولا تقدرها كتقديرها للشعر وللقوة المتمثلة بالقادة والسياسيين.اعبر تمثال الرصافي الى الجهة الاخرى ,ادخل تكملة شارع الرشيد باتجاه مدخل الشورجة ,هنا المكان مزدحم ويعج بحركة الباعة والناس حيث بداية يوم عمل جديد. امشى بضع امتار ثم اعود لاصعد السلم الذي يؤدي الى الممر امام عمارة جملة الاحذية والجلود وهي اكبر سوق للاحذية ومنتجات الجلود في بغداد, امشي امام العمارة حيث صفت منتجات الجلود معروضة على الارصفة .امر امام بوابة المتحف البغدادي على الجانب الاخر من الشارع ثم سوق الصيارفة وباعة الذهب واصل الى رأس الجسر واعود الى عبور الجسر الى (صوب الكرخ) كما يسميه اهل بغداد متمهلا لأنهي جولتي اليومية التي اشحن فيها روحي بالطاقة المستمدة من الارواح الخيرة التي تملأ فضاءات المدينة العتيقة , حيث لا تزال ارواح علمائها وادبائها وشعرائها ومحبيها ومتصوفتها وعارفيها وما اكثرهم تتجول وتمرح في اجوائها بعد ان تحررت من سجون الاجساد في هذه الدنيا الفانية بالنسبة للناس والمستمرة بالنسبة لبغداد ,التي عاشت الافراح والترف والبغددة والازدهار في فترات من عمرها ,وعاشت الويلات والمصائب والكوارث والاحتلال في فترات اخرى, ولكن بقيت شامخة مرفوعة الرأس تستقبل الاجيال من ابنائها وتودع اجيالا اخرى . تتكون المدينة القديمة في جهة الكرخ من ساحة الشهداء حتى منطقة العلاوي حيث كراجات النقل الى المحافظات حاليا ومن جهة الرصافة من منطقة الميدان على امتداد شارع الرشيد وشارع الجمهورية الى ساحة التحرير في الباب الشرقي .في هذه المنطقة تسرح وتمرح ارواح الطيبين ممن عاشوا في هذه المدينة على مدى عهودها من مشاهير وبسطاء من اغنياء وفقراء من كل الاديان والطوائف والقوميات والمهن , كل من عاش هنا واحب المدينة وانسجمت وتناغمت روحه مع روحها وبث بعد انتقاله الى العالم الأخر طاقة روحه الايجابية الى روح المدينة .اما الطغاة البغاة الاشرار ممن آذى المدينة واهلها من الحكام او المحتلين او السفلة او القتلة فارواحهم محجورة في سجن الارواح الشريرة في اسفل سافلين محجوبة عن المدينة لأنهم لم يحبونها او يحبون اهلها ولم تنسجم او تتناغم ارواحهم الشريرة مع روحها الطيبة (فالارواح جند مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف).لا يمكن لفاقدي الاحاسيس أن يشعروا بهذه الروح وطاقتها الايجابية لانهم لا يمتلكون ادوات التواصل الروحي والانسجام مع روح بغداد فروح بغداد لا تتناغم ولا تنسجم الا مع ارواح محبيها من الطيبين. أنها (روح بغداد) اعظم مدينة في تاريخ الانسانية كانت ولازالت وستبقى عصية على الاشرار الطامعين ولينة محبة مع الخيرين الطيبين. كل شارع وكل مبنى وكل حائط وكل باب وكل رصيف وكل حجر وكل طابوقة يحكي حكايات بغداد وحكايات الف ليلة وليلة وحكايات السندباد وحكايات علاء الدين وحكايات جحا .انها بغداد بغداد بغداد.