روحٌ اِسْتَبَدَّ بِها الوَهْن، فاستوطنتها رَغْبَة مَجْنُونة طافِحة بلَذّةِ الدم..
قراءةٌ فِي رِوايَةِ (وكر السلمان) للأديب شلال عنوز
اِعتنى الباحثُون والنُقاد والدارسُون بمسألةِ العُنْوَان فِي النُّصُوصِ الأدبِيَّة، بوصفهِ مُحددًا لهويةِ النَصّ، ومُشيرًا في نفسِ الوقت إلى مَا مِن شأنِه المُسَاهمة فِي الاِقترابِ مِن مَضْمُونه، الأمر الذي ألزمَ بعض الباحثين الاِنهِماك في إعدادِ دراسات مُتَخَصِّصة تناولت شروط صِّياغَة العُنْوَان بأسلوبٍ يوحي إلى إشاراتِ بوسعِها أنْ تُعبرَ عَن أبعادهِ الدلاليَّة والرمزيَّة المرتبطة بثيمةِ المُؤَلَّف، أو النَصّ الأَدَبِيّ، فضلًا عَمَا صدر من أبحاثٍ ودراسات ومواضيع شَتَّى بخصوصِ أهمية العُنْوَان في الكثيرِ مِن الأعمَالِ الأدبيَّة التي اِنْبَرى لها باحثون أكاديميون، وكتّاب متخصصون.
إنَّ نجاحَ الكاتب في اِختيارِ عُنْوَانًا لِمَا يَكتُب مِن نَصٍّ، أو مُنجَز أدَبِيّ، ليس بالمهمةِ اليَسِيرة كما يظن البعض، إذ أنَّ مِن موجبات سلامة اِنتقاء العُنْوَان هو اكتنازه بعض الإشاراتٍ – علنيَّة كانت، أو ضمنيَّة – التي بوسعِها الكشف عن المهمِ مِن جوانبِ نتاجه الأدَبِيّ، مَا يعني أنَّ العُنْوَان يُعَدُّ عتبة نَصِيَّة مهمة تفضي إلى اقترابِ المُتلقيّ مِمَا يجول بخاطرِ الكاتِب عبر كشف بعض دلالات العمل الأدَبِيّ، إلى جانبِ محاولة جذب القارئ، والمُساهمة في إغرائهِ بالاطلاع عليه.
اِرْتَأَيتُ أنْ أسجلَ هذه المُقَدِّمةِ الموجزة، بوصفِها ممهّدة للبَحْثِ في رِوايَةِ (وكر السلمان) للأديب شلال عنوز التي صدرت عام 2020م بـ (220) مِن القطع المتوسط عن اتحاد الأدباء والكتاب في النجفِ الأشرف، وطبعت في دار أحمد المالكي للطباعة والنشر، إذ اجتهد عنوز في مجالِ صياغة عُنْوَان روايته بالخلطِ مَا بين مفردتين تحمل كُلَّا منهما سماتً خاصة في الوصفِ، وهما: الوَكْرُ والسلمان، فالوَكْرُ لغةً: تعني المغارة، أو الكهف، أو المَسْكن، أو المَقَرّ المشبوه الذي يلجأ إليه، ويختبئ به المجرمون وطريدو العدالة، فِيمَا ترتبط المُفردة الأخرى في ذاكرةِ أهل العراق بأصداءٍ مأساويَّة مُقْتَرِنَة بمعطياتٍ مُخيفة بسببِ اختيار السلطات العراقيَّة في انظمتِها السابقة منطقة نائية بقضاءِ السلمان في محافظةِ المُثنى مكانًا لإنشاءِ سَجْن (نقرة السلمان) الذي أقيم في منطقةٍ صحراويَّة بدويَّة بالقربِ مِن الحدودِ العراقيَّة السعوديَّة؛ لأجلِ أنْ يكون منفىً ومعتقل يٌبعد اليه كلّ مَن يقف بوجه السلطة، فكان أنْ زجَ العشرات مِن العناصرِ الوطنيَّة في هذا السَجْنِ الرهيب الذي يشار إليه باسمِ (باستيل العراق)، بوصفِه مِن أكبرِ وأقسى السُجُون في العالم. ويبدو جليًا أنَّ المفردتان تجمعهما خصائص الوصف في إنشاءِ المُتلقيّ صورة ذهنيَّة عن فحوى العُنْوَان الذي بُني على الربطِ في سياقٍ منطقي مَا بين كلمتين مختلفتين في المعنى، بيد أنَّهما اِمتزجا ليشكلا معًا فضاءً لعُنْوَانِ الرِوايَة هذه؛ بغية التعبير عن مشاعرٍ إنسانيَّة أيقظتها ظروف مأساويَّة تعرض لها مُجتمعنا، إذ يشير موقع الوَكْرُ الجُغرافيّ في الرِوايَةِ إلى إحدى معالم الخَوْف والاِضطهَاد والاِسْتبداد التي تجرعها أهل العراق، بوصفهِا شاهدًا حيًا على ممارسةِ النظام الدكتاتوري مَا تباين مِن أشكال الظلم والوحشيَّة التي نجم عنها عشرات الآلاف مِن الضحايا، وحتَّى مَن قدر لهُ البقاء على قيد الحياة، لَمْ يسلم مِن الآثار الجسديَّة والنفسيَّة التي تركتها أيام المحنة الوطنيَّة، فيما يرمز الوَكْرُ إلى الغرقِ في دوامةِ الظلام، إذ يُفرضُ على مَن يطأ فضاءه التخبط في دياجيرِ ظلامٍ دامس، مع العرضِ أنَّ المناطقَ المُظلمة تبقى على الدوامِ مرتعًا خصبًا لشبحِ الجريمَة بأنواعِها وأشكالها ومساراتها، ولطالما شهدت الغرف المظلمة قرارات هوجاء تسببت في إشعالِ فتيل الحرب، وتَأْجِيج لهبها. ولعلَّ مَا يؤكد مَا ذهبنا إليه هُنا هو مَا ورد في عتبةِ الإهداء، والتي نقتطفُ منها العبارات الأتيَة:
“إلى الذين خسروا أمانيهم وأكلوا أعمارهم..
إلى الإنسانيَّة المُعذبة بحماقاتِ مشعليها…”
مِن المعلومِ أنَّ هنالك جملة مِن العناصرِ الفنيَة المنسجمة التي يتعامل معها الكاتب بجديةٍ في ترجمةِ المسار السردي لخطابه الرِوَائيّ، والتي قد يكون أحدها مفتاحًا لحديثِ النُقاد على نحوٍ مستقل عن مجملِ أحداث الرِوايَة، ومِن أهمها: الزمان، المكان، الحبكة، شخصيات الرِوايَة وغيرها، ولكن مِن وجهة نظر شخصيَّة متواضعة، أرى أنَّ هُنالك مَا قد يسبق العناصر المُشار إليها آنفًا عند البَحْث في رِوايَةِ وكر السلمان تحديدًا، إذ يمكن القول إنَّهُ إذا جاز لنا الاقرار بتسميةِ ادب الجَرِيمَة، أو الكتابة البوليسيَّة، فإنَّ الثيمةَ الأساسيَة للرِوايَةِ مدار بحثنا تنحى إلى أبعدِ مِن عالمِ الجريمة، إذ أنَّ خطابها يرتكز على أنَّ الحربَ، بما تباين مِن دوافعها وتداعياتها الكارثيَّة، تُعَدُّ على مدى التاريخ المصدر الرئيس لكلِّ الجرائم التي شهدتها البشريَّة، إنْ لَمْ تكن عنصرها الأساس، والتي أصبحت تراثًا سيئًا مشتركًا للإنسانيةِ. ويضاف إلى مَا تقدم، إنَّ مَا أتيحَ ليَّ الاطلاع عليه مِن تلك الرِوايَات، وجدتها في الغالب تعتمد على النسقِ الغربيّ الذي يقوم على ابتكارِ الكاتب شخصيات رِوايته الرئيسة مِن الخيَال، والتي ربمَا يظنها المُتلقيّ شخصيَات واقعيَّة، إلا أنَّ عنوزَ نسج رِوايته الأثيرة هذه عن حقائقٍ مُؤلمة وصَادمة مُستوحاة مِن واقع مُجتمعنا، فلا أراني مُبالِغًا إنْ قلتُ إنَّهَا تبحث في حيثياتِ الوجع العراقيّ مِن بين أحداث تاريخيَّة مُتراكمة تعود إلى حقبةٍ زمنيَّة لَمْ تعشها أجيال الألفيَّة الثالثَة.
ولَعَلَّنا لا نبعد عن الواقع أو نبالغ إذا قُلْنَا إنَّ كاتبَ الرِوايةِ مدار بحثنا يُعَدُّ بمثابةِ شاهد عيان على عصرٍ عَرَفهُ وعاشَ تفاصيله، فضلًا عمَا خلف في الروحِ مِن كمدٍ ظلت الأجيال تتوارثه وتروِيه إلى اليوم، وبخاصة لعنة الحرب وقسوتها، مَا تعين عليه أن يأخذ على عاتقه تقديم بعض الوقائع مِن تلك الحقبة التاريخيَّة بأسلوبٍ شيّق ويُقدّمها في رِوايةٍ لَمْ تقلل قسوة أحداثها مِن روعتِها. ومِن المهمِ الإشارة هُنا إلى أَنَّ الزمانَ والمكان كان لهما أهمية في بنيةِ الخطاب الرِوائيّ برِواية وكر السلمان، حيث قام الكاتب بتوظيفِهما والحرص على تكامليةِ العلاقة بينهما، مع ملاحظةِ الأثر العميق للمكانِ في نسجِ بنية النَصّ. والمثيرُ للاهتمامِ أَنَّ الكاتبَ لَمْ يغبْ عن بالهِ تعريف الأجيال الحاليَة بالفارقِ الزمنيّ مَا بين وجه بغداد الحالي والسابق، إذ عمدَ إلى الإشارةِ لجملةٍ مِن ذِكريَاتِ الأمس مِن خلال استعراض بعض معالمها وصروحها في متنِ الرِوايَة مثل: شارع الرشيد يوم كان أيقونة بغداد بفضلِ مَا ضمه مِن شواهدٍ سياسيَّة وعمرانيَّة وثقافيَّة وفنيَّة، وشارع النهر الذي يشير إليه البعض باسمِ شارع البنات، أو شارع العرسان، والذي كان يُعَدُّ أحد أكبر أسواق الجمال والموضة، إلى جانبِ غيرهما مِن الأمكنةِ التي يفوح منها عبق ماضي بغداد الجميل، على الرغمِ مِن أنَّ بعضها قد تعرض إلى الإزالةِ ، أو الإهمال مِن أجلِ تحفيز شباب اليوم على التمعنِ بسحرِ عاصمتهم وجمالها وأهميتها الثقافيَّة؛ بغية المُساهمة في الجهودِ الراميَة إلى إعادةِ ألقها. ولعلَّ المذهلُ فِي الأمرِ أَنَّ دقةَ التفاصيل التي ذكرها عنوز عن الأمكنةِ في سياقِ رِوايته تجعل المُتلقي يتيقن مِن أنَّهُ عاشها شخصيًا في الأمسِ القريب، ولَمْ تُروَ إليه، إذ لوحظ أنَّهُ استعرضها بتأثرٍ واضح. ولَمْ يقتصر الفضاء الرِوائيّ للكاتبِ شلال عنوز على بغداد وحدها، إذ جهد في الولوج إلى أمكنةٍ أخرى قصد تحديد معالمها، كقضاء السلمان، الوَكْر وخنادق الحرب بتفاصيلها المُرعبة التي عايشها العراقيين قسرًا، والتي تُعَدُّ بوصفِها مِن الوثائقِ الإنسانيَّة التي يتعين على الأجيالِ الحاليَة والمُستقبليَّة أنْ تطلعَ عليها.
ولعلَّ مِن المهمِ الإشارة هُنا إلى توظيفِ كاتب الرواية الأديب شلال عنوز اختصاصه الأكاديميّ في مجالِ القانُون، وامتهانِه المُحاماة لمدةٍ طويلة، فضلًا عن درايته الواسعة بالكثيرِ مِن الخفايا والأحداث ذات الصلة بالجرائم، واِطلاعه بحكم تواجده في المحَاكمِ على أعمالِ التحقيق، ومَا تبعها مِن مُعالجاتٍ قضائيَّة بالاستنادِ إلى القانُونِ الجنائي أو قانُون العقوبَات. وليس خافيًا أنَّ السنواتَ التي قضاها في العمل بمجالِ القانُون، ساهمت على مَا يبدو في امتلاكِ عنوز معرفة متعمقة في النظرياتِ النفسيَّة الاِجتماعيَّة المُفسرة للسلوكِ الإجرامي، وعلم النفس الجنائيّ، بالإضافةِ إلى مَا اِدَّخَرَ مِمَا تباين مِن المفاهيمِ المرتبطة بالجريمةِ والاِنحراف، إذ بدا واضحًا مِن مضامين رِوايته هذه أنَّ ممارسَته مهنته، أكسبته سعة الأفق، وغزارة المعلومات عن عالمِ الجريمة، ولاسيمَا العواملِ النفسيَّة، وتأثيرها على السلوكِ الإجراميّ، ولعلَّ بعض التساؤلات التي طرحها بخصوصِ الحكم القضائي خير مصداق على مَا تقدم.
تبحثُ الرِواية في بيئةٍ اِجتماعيَّة أغلب شخوصها من المُهتمين بالقانُون، والذين نهلوا مِن العُلومِ التي تسعى إلى صياغةِ المعرفة والمفاهيم التي تساهم في ترسيخِ الهوية الوطنيَّة عبر المُشاركة الفاعلة في تحقيقِ العدالة واِستقرارها في المُجتمع، ومواجهة الظلم في كلِّ زمانٍ ومكان. وقد كان بطل الرواية (نعمان) الذي عاش وتربى وسط عائلة ميسورة ومُحافظة تتمتع بمخافةِ الباري عزّ وجلّ، مِن بين الذين أقسموا على توليّ مهمة تحقيق المطلب المُشار إليه آنفًا بالتعاونِ مع بقيةِ الخريجين، فضلًا عن كونه مِن المتفوقين دراسيًا، ويدفعهُ طموحًا جامحًا إلى أنْ يصبحَ قاضيًا بفضلِ مَا يمتلك مِن سماتٍ مميزة، مِنها قوّة الشخصيَّة، الإيمان بالمُثلِ العليا وسعة الثقافَة القانونيَّة بحسب أساتذته في الدراسةِ الجامعيَّة الأوليَّة.
ولَمْ يكن خياره يومًا وهو الذي امتاز أيضًا بامتلاكهِ موهبة نظم الشِّعر أنْ يرتبطَ اسمه بعالمِ الجريمة، بيد أنَّهُ لَمْ يستوعب مَا خبأت لهُ الدنيا مِن صدمةٍ نفسيَّة عنيفة، بعد أنْ أفاق ذات يومٍ على نفسه، فوجد أنَّ حرب الثمان سنوات سلبتهُ ذكوريته التي يعدها أعز مَا يملك.
نعمان الذي اختار اسمه الكاتب في إشارةٍ رمزية للدلالةِ على حادثةِ قتل مشهورة نفذها أشهر ملوك المناذرة قبل الإسلام النعمان بن المنذر، كان معول عليه أنْ يَهِبَ كلّ مَا يملك مِن جهدٍ للإنسانيَّة، فضلًا عمَا يرتبط بها مِن أعمالِ الخير ومقارعة الظلم، إلا أنَّ تداعياتَ تلك الحرب الداميَة جعلتهُ واحدًا مِن بين آلاف الضحايا البشريَّة في العراق مِمَن تجرعوا مرارتها التي اِستباحت كيانه الإنسانيّ عبر اِغتيال ذكوريته الذي ترك في نفسهِ جرحًا يصعب دمله، فكان أنْ عاش مُحبطًا في دوامةِ أزمة نفسيَّة حادة، قادته إلى اِبتلاعِ أحلامًا لَمْ تختمر بعد.
بدأ يندب حظه العاثر حين أيقن أنَّه في حالٍ لا خروج منه، فاستكانَ لأزمتهِ التي ابتليَ بها وكأنه يعلن احتضاره، بعد أنْ استسلم لمشاعرٍ مستهجنة ايقظتها الحرب في روحٍه البريئة، فـ “الحروب لا تكتفى بالكشف عن أسوأ غرائزنا، بل تصنعها” كما يقول أمين معلوف.
وأمام تخاذله لَمْ يكن بوسعه إلا الركونِ إلى فضاءاتِ عالمٍ كان ينبذه، ويعتزم مواجهته مهنيًا بكلِّ صرامة، بعد أنْ تمكن مِنه القلق المفرط الذي قاده إلى الاكتئابِ بسببِ إغفال القيادات الإداريَّة مسألة إعادة التأهيل النفسي لضحايا الحرب، والذي مِن شأنهِ تغيير أفكار وسلوكيات المريض السلبيَّة وتحويلها إلى أفكارٍ أكثر إيجابيَّة متصالحة مع الواقعِ مِن خلالِ مساعدة المريض على إدراكِ تصرفاته وأفكاره الحاليَّة والعمل على تغييرِها، إذ بحسبِ المتخصصين في علمِ النفس: “تتركُ الحروب آثارًا عديدة أكثر تعقيدًا وعمقًا ممَا نتخيل، تتعدى كونها آثارًا جسدية، أو عضوية وتمتد إلى الآثار النفسيَّة والعقليَّة التي قد تبقى وتمتد سنين طويلة حتى بعد أن تشفى الجراح وتختفي”.
وفي لحظةِ اِنكسار تربض في قاعِ نفس نعمان المضطربة، قاده إحساس غائر بقهرٍ نفسيّ مستمد مِن شعورٍ بالنبذِ الاِجتماعيّ وعدم المساواة، لِمَا أفضى إلى قلبِ حياته رأسًا على عقب، حيث كان لوطأةِ الضغوطِ النفسيَّة التي فرضتها عليه حادثة ضياع ذكوريته في جبهات القتال دورًا مؤثرًا في تفجيرِ مكامن الحقد الأعمى الذي أوقعه بأتونِ الجريمة، فاتخذ مَخْبَأ موحشًا قريبًا مِن مسكنهِ المُنعزل في باديةِ السَماوة جنوبي العراق مسرحًا لجرائمه الوحشيَّة التي أَزْهَقَ فيها أرواح أقربِ أصدقائه وأحبته مستغلًا براءة ضحاياه وثقتهم به، حيث أصبح هذا المكان الدموي المجنون مرتعًا للتعبيرِ عن نفسٍ جعلتها ويلات الحرب تكتظ بشهوةِ إبادة الأصدقاء التي أصبحت تغلي في نفسهِ، فاستكان إلى نزعةٍ عقليَّة مريضَة جعلته يتيقن مِن أنَّ قدراته في قتل الأصدقاء كفيلة بالتعويضِ عن إخفاقهِ في الاستجابةِ لغريزتهِ الجنسيَّة، فغدا يتلذذ بمنظرِ شلال الدم الذي تنزفه أجساد الضحايا الأبرياء؛ بغية تفريغ عقدته، إذ أصبحت النزعة الدمويَّة معادلًا موضوعيًا للقدرةِ الجنسيَّة التي أفقدتهُ إياها الحرب، فأصيب بإحباطٍ أفقده الثقة بنفسه، وجعله عاجزًا عن التصالحِ مع التحدياتِ التي فرضتها إصابته في مجرياتِ الحرب، فركن إلى الأحقادِ والأضغان انعكاسًا لتصدعِ شخصيته؛ لذا حينما يكون مع الضحيةِ في مسلخهِ، لم يكن آبهًا بمَا يسمع مِن عباراتِ توسل وكلمات استعطاف طلبًا للرحمة؛ وكأنَّ أصواتًا تصدع رأسه تدعوه للمضيِّ قدمًا في أفعالهِ المأساويَّة، ولعلَّ مَا يؤكد ذلك هو اعتراف نعمان لأعزِ أصدقائه ناصر عند لحظة الشروع بقتله قائلًا: “أنها شهوة القتل التي تملكتني, فمنذ وطأت رجلاي هذا الوكر الخبيث, ولا شيء يطرق تفكيري سواها, هي لعنة الحرب يا ناصر. صدقني أنا أحبك. ولكنه حب يسكنه الموت, فلقد فقدت الأمل واصبحت الحياة لي مجرد وهم ومات ضميري, متأجج الحقد والغدر في الاعماق”.
كان نعمان ينفذ جرائمه المُرعبة بدمٍ بارد، حتَّى يلامس رذاذ الدم وجهه، وجثة بعد جثة يأويها الوَكْرُ، بعد أن يقوم بدفنِها، ثم لا يلبث أنْ يبكيَّ بدموعٍ تذرفها عينيه، وينزف بها قلبه، يتبعها بصياحٍ حتَّى يكاد أنْ يختنق. وذات نهارٍ بغدادي، ذهبت إلى حيث لا أحد غير الباري عزّ وجلّ يعلم وجهتها خطيبته (سناء) التي أحبها وهام عشقًا في هواها، حيث اختفت آثارها عَن أعينِ أهلها وأحبتها، بعد أنْ استدرجها نعمان إلى معقلهِ النتن، وقتلها ببشاعةٍ، بعد محاورة عنيفة انتهت باعترافهِ إليها بـ (فقدان رجولته)، الأمر الذي جعله يركن إلى ممارسةِ القتل، ومؤكدًا لها أيضًا أنَّ دوافعَ جريمته هذه تعود إلى حُبّه لها، ومِن أجلِ أنْ لا تكون شريكة غيره في الحياةِ التي كان يحلم بها.
في كلِّ انتهاكاته الجسِيمَة للإنسانِ الذي يُعَدُّ بوصفه أشرفِ المخلوقات وأكملها على الإطلاق بفضلِ ما أودعه الله تعالى مِن قوىً لَمْ يعطها لغيره، كان الشاهد الوحيد على مَا ارتكبَ مِن جرائمٍ مُرعبة، هو قطة سوداء وجدها عند باب مسكنه في الباديةِ الجنوبيَّة لدى عودته مِن مراسيمِ دفن والدته، فتوددت له، وعاشت معهُ لا تفارقه، ولا ريبَ أنَّ القطة تُعَدُّ مِن أقربِ الحيوانات الأليفة إلى الإنسان، وحتَى اختيار لونها كان يخضع لدرايةِ الكاتب بالألوان، فاللون الأسود هو سيد الألوان كما هو متعارف عليه. والمُذهل في الأمرِ أنَّ القطةَ السوداء كانت تحرص على القيامِ بحركاتٍ لا يفهمها الضحية في محاولةِ منعه مِن دخول الوَكْر؛ لمعرفتِها بِمُبتغى نعمان الإجراميّ، وكانت تنظر إليه بحقدٍ وأسى بعد قيامه بتنفيذ كلّ جريمة، إذ كان نعمان ينظر إليها خارج ميدان جرائمه برحمةٍ وشفقة، لكنه لا يعير لها أيَّ اهتمام عند الشروع بتنفيذِ جرائمه. ومع تعدد رؤى المُتلقين حيال الجدوى مِنْ إقحامِ الكاتب القطة السوداء في مسارِ رِوايته، إلا أنَّهُ يمكن القول إنَّ عنوزَ ربمَا استخدمها برمزيةِ (تناسخ الأرواح) للدلالةِ على عدمِ رضى والدته بأفعالهِ الشنيعة، وهي التي جهدت كثيرًا مِن أجل إعداده على وفقِ تربيَة سلِيمة وصالحة، فضلًا عن محاولةِ تبصيره بضرورةِ التوقف عن الإيغالِ في عالمِ الجريمة، ولعل ما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو أنَّ القطة السوداء هي التي قادت المفرزة الأمنيَة المكلفة بإلقاءِ القبض على نعمان بعد اكتشاف أمره، وأرشدتهم إلى وكرهِ المشؤوم. وقد تكون القطة أيضًا رمزًا تعبيريًا للدلالةِ على ضميرِ الإنسان الذي يؤنبه ويشعره بعقدةِ الذنب، إذا مَا أدركنا أنَّ تأنيبَ الضمير يعبر عن ألمٍ نفسيٍّ يشعرُ بهِ الفرد داخليًا، وهو مَا يتوافق مع مشاعرِ نعمان بعد كلّ جريمة يقوم بها، ولعلَّ وصية نعمان بتوزيع أمواله وعقاراته ومَا يملك إلى عوائلِ الضحايا خير مصداق على مَا كان يشعر به مِن ندم.
الأديب شلال عنوز كان موفقًا في صياغةِ خاتمة الرواية، فالجريمة تبقى حاضرة في كلِّ زمانٍ ومكان، ولا يمكن أن تنتهي بموتِ نعمان الذي توارى كشبح خلف سحب الدخان التي أحدثها انفجار الوَكْر اللعين الذي تسبب بإصابة بعض مراتب الشرطة تعبيرًا عن الثمنِ الذي يقتضي أنْ تدفعهْ البشريَّة قربانًا لوأد الجريمة.
ختامًا، لا أظنني أبـالـغ أو أخاصم الحَقـيـقـة إذا ما قلت إنَّهُ بفعلِ مَا مرت بهِ بلادنا من حروبٍ، فإنَّ عشراتَ الآلاف مِن الأشخاص يعانون مِن آثارٍ واضطرابات نفسيَّة، تتطلب حلولًا جديَة عبر إعادة التأهيل النفسيّ لِمَنْ عاشوا الحرب واعتادوا مشاهد القتل وزكمت أنوفهم جثث القتلى، فللحرب الكثير مِن التداعياتِ التي تتجسد بآثارٍ تدميريَّة وماديَّة وجسديَّة، إلا أنَّ الأثرَ الأهم يبقى على الدوام مرتبطًا بالأضرارِ النفسيَّة التي طالت حتَّى الذين قدر لهم أنْ ينجو مِن ويلاتِ الحرب وفظائعها؛ لأنَّهم ربمَا مَا يزالون يتوارثون ذاكِرة الحرب اللعينَة.
أثمن جهد الصديق العزيز الشَاعِر والرِوائيّ الأستاذ شلال عنوز، وأبارك لهُ النجاح في باكورة عمله بالتجربةِ الرِوائيَّة، متمنيًا لهُ التواصل في عطائِه البحثيّ.
جدير بالإشارةِ أنَّ الأديبَ شلال عنوز، شَاعِرٌ وقاص وروائي مِن مواليد عام 1950م، حاصل على شهادةِ البكالوريوس في القانُون، عضو الاتحاد العام للأدباء والكُتاب في العراق، وعضو مؤسس في اتحادِ أدباء النجفِ الأشرف، أصدر خمس مجموعات شِّعريَّة، فضلًا عن اشتراكه بمجموعتين شِّعريَّتين، وردت لهُ تراجم في أغلبِ الذين أرخوا للحركةِ الأدبيَّة في النجفِ الأشرف والعراق، تناول تجربته الأدبيَّة الكثير مِن النُقاد، بالإضافةِ إلى الباحثين في الرسائلِ والأطاريح.
***
_____________________
عُنوانُ الكتاب: رواية وكر السلمان.
اسم الكاتب: شلال عنوز.
عدد صفحات الكتاب: (220) صفحة من القطع المتوسط.
الطبعة: الأولى 2020م.
جهة الاصدار: اتحاد الأدباء والكتاب في النجفِ الأشرف
الناشر: منشورات أحمد المالكي للطباعة والنشر.
***