17 نوفمبر، 2024 7:41 م
Search
Close this search box.

رواية .. يامريم للكاتب العراقي سنان انطون – إنكِسارٌ في ذَاكِرة ٍخصبة

رواية .. يامريم للكاتب العراقي سنان انطون – إنكِسارٌ في ذَاكِرة ٍخصبة

رواية رشحت لجائزة البوكر العربية /القائمة القصيرة 2013.
منشورات دارالجمل /الطبعة الاولى 2012  

عتبة الذاكرة

التقط سنان انطون حدثا مهما وخطيرا عندما اقتحمت مجموعة ارهابية مسلحة كنيسة سيدة النجاة في منطقة الكرادة في العاصمة العراقية بغداد في تمام الساعة الخامسة وخمس عشرة دقيقة من عصريوم الاحد31/  من شهرتشرين الأول من العام 2010 اثناء قيام المصلين بأداء الشعائر الاخيرة من قداس داخل الكنيسة فقتلت تلك المجموعة عددا ً كبيرا ً من المصلين قبل أن تتدخل قوات عسكرية تابعة للحكومة وتقتحم المكان لتقتل ماتبقى من المسلحين وتحرر الاحياء من المصلين.
الروائي سنان أنطون إستثمر هذا الحدث ليصبح بؤرة أساسية أنطلق من خلاله في صياغة البنية السردية لروايته وشخصياتها من غير أن يشكل هذا الحدث ــ على الرغم من فجائعيته ــ  مساحة كبيرة ومهيمنة في أحداث الرواية التي توغلت في ماهو مخفي ومطمور من التفاصيل والحقائق في البنية الاجتماعية العراقية،وقد شكل المسيحيون فيها العنصر الانساني الابرز والاساس.
هذا إضافة الى أن تقديمهم في هذا العمل قد تم بعيدا ً عن الصورة النمطية والسطحية السائدة عنهم والتي كرستها العديد من الاعمال الادبية والفنية العراقية إلاّ أن سنان انطون قال في عمله هذا مالم تقله الكثير من نماذج الادب العراقي المعاصرعن هذا المكون وقد جاء ذلك بمعالجة فنية متقدمة حاول فيها أن يقدم عملا ً روائيا ً احداثه وشخوصه مستلهمة من الواقع من غير أن يكبح جماح خياله وهو يتصدى لواقع تاريخي مازالت حقائقه شاخصة وفاعلة .
تحرك المؤلف في فضاء السرد بحريّة دون أن يخضع لمركزية الجغرافية الزمنكانية التي شغلها حادث اقتحام  الكنيسة وإنساق وراء انثيالات الذاكرة الفردية للشخصيتين الرئيستين(يوسف كوركيس  ومها جورج حداد) ومن خلالهما عبرعن طبيعة الاشكالية التي تحكم العلاقة مابين الماضي والحاضر: يوسف بسنواته التي تجاوزت الثمانين،ومها التي كانت في العشرينات من عمرها.من هنا انطلق في المعالجة السردية،مُتكأ ًعلى آلية القص والاسترجاع والتحرك على مساحة زمنية طويلة تبدأ من الفترة التي جاء فيها كوركيس والد يوسف مع نهاية العقد الاول من القرن العشرين قادما ًمن تلكيف ليسكن بغداد،ولتستمرالاحداث الى مابعد ثلاثة أيام من الهجوم على الكنيسة.
وعبر ذاكرة خصبة ليوسف كوركيس اختار الكاتب أن يستعيد تفاصيل الماضي بمكنوناته الذاتية والعامة خلال يوم واحد،وذلك عندما يستقيظ في تمام الساعة السادسة والنصف صباح يوم الاحد 31 تشرين الاول من العام  2010 ولتستيقظ معه الذكريات الحميمة،من غير أن يكون بحاجة الى منبّه لكي يستقيظ في هذا الوقت المبكر بعد أن أمست عادة له منذ سنين طويلة ماأن أصبحت مثانته أفضل مُنبّه طبيعي يجبره على الاستيقاظ وزيارة الحمَّام أكثر من مرة، وسيكون تاريخ هذا اليوم هو نفس تاريخ اليوم الذي ماتت فيه شقيقته الكبرى حِنّة قبل سبع سنوات،وهاهي السنوات السبع قد مرت بسرعة منذ ذلك الصباح “سنوات كانت حِنّة ستتعجب منها لو كانت على قيد الحياة إذ فاقت كل ماسبقها، وفاقت حتى الشهور السبعة الاخيرة من حياتها بعد الحرب الاخيرة عام 2003 “.
لم يدندن يوسف أغنية من أغانيه المحببة كما كان يفعل عادة. .وقف أمام التقويم المُعلق على جدار المَمَر كما كان يفعل كل صباح وهي عادة قديمة لم يقلع عنها حتى بعدأن أُحيل على التقاعد وخلت أيامه من المواعيد وقلت مشاغله وواجباته.
لم يمت الماضي في ذاكرة يوسف بعد أن وصل الى العقد الثامن من عمره، “ولم يكن محبوسا ً في الصور المؤطرة المعلقة على جدران الذاكرة التي تمتد آلاف الأمتار وتلك المعلقة على جدران البيت والمحفوظة في الالبومات،بل مازال يتعايش مع الحاضرويحترب معه “ولم يتبقى له في اخريات أيامه سوى الذكريات والبيت الذي يعيش فيه وحيداً بعد أن تفرق الاهل في أصقاع الدنيا ومات البعض الآخر .
جميل شقيقه الاصغرغادرالعراق عام 1969هاربا الى لبنان موطن زوجته اللبنانية بعد أن أعدَمت السلطات العراقية صديقا له متهمة اياه بالارتباط بالماسونية. وسليمة شقيقته الصغرى التي أصرَّ والده على أن تحمل الاسم الاول للمطربة سليمة مراد أشهر مغنية في العراق في تلك الايام،وشقيقته حبيبة التي كانت من أول الفتيات اللواتي عمِلن في مهنة التمريض،وحِنَّة التي تحمَّلت مسؤولية رعاية العائلة بعد وفاة والدتهم نعيمة،وشقيقه غازي الذي كان يعمل في الآي بي سي في كركوك حتى العام 1961ومن ثم ليهاجر الى أميركا ويسكن ولاية ميشغان عام 1979،وشقيقه إلياس الذي درس الحقوق وتورّط بالسياسة ودخل السجن اكثر من مرة،وميخائيل أصغر أشقائه الذكورالذي عمل مترجما مع عدة شركات أجنبية بعد تخرجه من كلية بغداد قبل أن يستقر مترجما في السفارة الاسترالية عام 1977.
عاش يوسف أزمنة الخير كما يقول هوعنها ومازال يتذكرها. ولكي يُبدد هذه الوحدة القاتلة دعا عائلة مسيحية صغيرة من معارفه تتألف من المهندس الشاب لؤي وزوجته مها التي تدرب الطب في جامعة بغداد  ليسكنا في الطابق الثاني من البيت. كانت مها سعيدة بأنتقالها الى هذالمكان الذي وجدت فيه الهدوء الذي افتقدته في بيت أهلها الكائن في منطقة الدورة والذي كانت قد سكنته مع زوجها لفترة قصيرة،بعد أن كان أهلها قد هجروه قبل أكثر من عام متجهين الى ناحية عنكاوا في كوردستان العراق هربا من العنف الذي بات يستهدف المسيحيين. وعلى اثر انفجار سيارة مفخخة أمام البيت تسببت في فقدانها لجنينها قررت مغادرته مع زوجها وقبول العيش في مكان بعيد عن بيت أهلها لايُذَكِرُها بما كانت قد فقدته .وليضفي وجود مها ولؤي حيوية وروحا نديّة على حياة يوسف وعلى البيت الكبير الذي تيبست ضلوعه بعد أن تشرد معظم افراده في اصقاع الدنيا وماعاد هنالك من أمل بعودتهم بعدأن دخلت البلاد في منعطف خطير من العنف بين ابنائه فدفع المسيحيون جراءه ثمنا كبيرا ً،حتى أن البلاد باتت تفرغ منهم  .
شخصية يوسف كما رسمها المؤلف تتسم بانتماء إنساني واجتماعي قوي وعميق الى بغداد وهذا ماجعله غير قادرعلى تقبل فكرة السفر ومغادرة العراق رغم الحاح الاخوة والاخوات،إضافة الى إعتدال افكاره وتفاؤله ،فهوعلى يقين كبير بأن الاوضاع في البلاد لابد أن تعود الى طبيعتها،فكان هذا التفاؤل سببا ً في احتدام النقاش أكثر من مرة بينه وبين مها التي كانت تصب جام غضبها على الاكثرية المسلمة وتتهمها بالعنصرية والعنف والتفرقة.كما أتهمته هو ايضا في الليلة التي سبقت مذبحة الكنيسة بأنه “يعيش في الماضي”.  
مَها     :” عيني .. قَيِعدمونَا بكِل  مكان بلا محكمة ،ومحَّد يحكي .الكنايس قتنحرق والناس قتتهجر وقيذبحون بينا يمنه ويسره .”
يوسف:” موبس كنايس قتنحرق بنتي .الجوامع اللي انحرقت أكثر بكثير ،والاسلام اللي انقتلو عشرات الالاف .”
مها   :” خللّي يروحون يقتلون بعضهم بعض، ويخلونا بحالنا .إحنا أشعلينا ؟”
يوسف :” موقصة علينا وما علينا، بس دولة ماكو ، والاقليات محّد يحميها غير الدولة القويّة . إحنا لاعدنا حزب، ولاميلشيا ، ولابطيخ .”
استدعى الكاتب انطون عبر ذاكرة الشخصية الرئيسية يوسف كوركيس  أحداثا ً ومنعطفات عامة،منها :احتلال العراق للكويت عام 1990 وماأعقبه من تداعيات خطيرة على المجتمع العراقي تركت اثرها العميق في اجزاء مهمة من جنوب وشمال البلاد التي شهدت انتفاضة شعبية تم قمعها بقسوة ووحشية ،ثم تلى ذلك حصارا دوليا ظالما فتتَ نسيج المجتمع العراقي بسبب الجوع والامراض التي فتكت به. فكان هذا الاستدعاء لأزمنة من الماضي القريب ماهو إلاّ إلتماساً لجأ إليه المؤلف “بحثا ً عن إجابات آتية من الماضي لكن الزمن هنا مضاعفا : زمن الكتابة وزمن الذاكرة .” كما يقول رولان بارت في كتابه النقد البنيوي للحكاية .
يوسف :” وعندما عاد التيار الكهربائي أول مرة في نيسان كان ذلك قبل يوم من عيد ميلاد صدام . ظهر في اليوم التالي يحتفل به ببدلة بيضاء ويقطع كعكته أمام أطفال يرقصون ويغنون له كأن شيئا لم يكن .”
حنّه:” يعني مايستحي هذا !، هاكذ يسوّي بعد اللي صار بينا ؟ موعيب ؟ الناس ماتت والبلد انخرب وهو يسوّي هابي بيرثدي مثل الزعاطيط ؟ أخلاق سز .”
عتبة الفوتوغراف
الصور الفوتوغرافية التي تركها أفرادعائلة يوسف كانت عتبة اساسية انطلقت بها مسوغات المؤلف في تركيب  بنيته السردية لأجل لملمة الحكايات المتناثرة بين طيّات الزمن المتشظي”توزعت الصّور فوق التلفزيون وعلى بعض جدران البيت، وهناك غيرها مئات من الصور في الالبومات وفي مظاريف وأكياس في غرفة النوم الثالثة في الطابق الارضي ” إلاّ أن صورة واحدة كان يحتفظ بها يوسف في ظرف صغير في دولاب في غرفته لم يخرجها منه منذ سنين لكنه يحتفظ بنسخ معلقة في كل مكان على جدران قلبه وروحه ،صورة امرأة قلبت عالمه رأسا ً على عقب لكن قصته مع المُهندسة المُسلمة (دلال )انتهت كما تنتهي شبيهاتها من قصص الحب المحرم وفق قوانين بيئة اجتماعية لاتتسامح مطلقا بمثل هذه العلاقات.
الكثير من تلك الصورالمعلقة على جدران غرفة شقيقته حِنّه لم يكن يوسف يتذكر تاريخ التقاطها بالضبط،منها مالتقطته عدسة المصورالارمني الذي كان يمرعلى الشارع بيتاً بيتا يحاول إغراء العوائل بأن تلتقط صورة جماعية.فيختار المصّور زاوية مناسبة في باحة البيت لتقف العائلة أمامها كي تلتقط الصورة. . في واحدة من تلك الصورالتي يقف يوسف أمامها يتأملها قبل أن يغادرالبيت يبدو كوركيس والده جالسا بوقار في قلب الصورة يرتدي الصّاية واليشماغ ملفوف حول رأسه على طريقة القادمين حديثاً من قرى الشمال رغم أنه قد هجر تلكيف وجاء الى بغداد قبل أكثر من ثلاثة عقود إلاّ أنه رفض أن يغير ملابسه ويلبس “أفندي ” مهما ألح ّ عليه الاخرون، وظل يرتدي هذا الزي حتى موته عام 1957 .
الصور الفوتوغرافية التي أعتمدها سنان انطوان في تأثيث المشهد السردي للرواية يمضي بها في تواتر مترابط ليقوم بمهمة إعادة بناء التفاصيل واخراجها من سكونيتها مستحضرا ًحساسية الانفعالات والعواطف الانسانية بأحتمالاتها المبهجة والمحزنة وهوفي كل هذا التأسيس والتشكيل يمهَّد بهدؤ وايقاع بطيء ـــ يتناسب مع بطىء حركة يوسف منذ إحالته على التقاعد من وظيفته في مؤسسة التمر العراقيةـــ لكي يتم ألانتقال المفاجىء الى حدث اقتحام الكنيسة الذي تأجّلت الاشارة اليه حتى الصفحة 144من مجموع صفحات الرواية البالغة 156صفحة، فكان ذلك تمهيدا ًهادئا ً إتَّسم ببطىء واضح ومقصود .

عتبة الثوثيق الفلمي
وفي سعي واضح من مؤلف الرواية على أن يعضِّد افتراضاته التخييلة  التزمَ مَساراً واقعيا وثائقيا ً واضحا ليمسك بشظايا الحدث داخل الكنيسة وفق رؤيتين تتعاضدان ولاتتقاطعان،الاولى رؤية ذاتية وذلك من خلال شخصية(مها جورج حداد ) التي تولت سرد ماجرى في الكنيسة بدقة وتفصيل أمام عدسة مراسل قناة عشتار الفضائية بعد نجاتها من المذبحة، والثانية كانت رؤية موضوعية جاءت من خلال عدسة الكامرة المثبتة في خوذة أحد الجنود الذين اقتحموا الكنيسة وطهروها من القتلة .
“ظل جسد يوسف مسجى على أرض الكنيسة لأكثر من أربع ساعات قبل أن يحمل إلى الخارج بعد تخليص الرهائن وإخلاء الجرحى . كان محاطاً بأشلاء بشرية وبقطع من الزجاج المكسور والغبار والجص وببركة صغيرة من الدم الذي ظل ينزفه . داس أحد أفراد قوة مكافحة الارهاب الذين دخلوا الكنيسة على اصابع يده اليسرى بالخطأ فهشم عظام ثلاثاً من اصابعه.كان يحمل كاميرة صغيرة معه ويصور العملية وظل يطلب من الرهائن المحررين أن ينظروا إلى الكامرةوأن يقولوا “كولوا الله ” .حُمِّل الفيلم بعد أيام على اليوتوب مع معلومات عن قائد العملية وأغنية حماسية للترويج للفرقة الذهبية التي انقذت الرهائن .”
عتبة اللهجة المحلية
ربما يكون اختيار اللهجة المحلية الموصلية عائقا الى حد ما في عملية الفهم والتواصل مع مفردات ودلالات الحوار داخل الرواية وذلك لخصوصية هذه اللهجة وعدم شيوعها كثيرا خاصة لدى شعوب المنطقة العربية وهذا مايضع القارىء في مواجهة صعبة لفكِّ طلاسمها على الرغم من أهميتها وخصوصيتها هنا في التعبير عن وجدان وذاكرة الشخصيات ، ولاشك أن المؤلف كان مُدركا تمام الادراك لهذه القضية لكنه وكما يبدو لنا كان حريصا على توظيف ماتمتلكه هذه اللهجة من طاقة تعبيرية تعكس مدنية وتحضّر من يتحدثون بها وليكون بالتالي استثمارها قد جاء انطلاقا من غاية توظيفية شحنت الحوار بمرجعية محلية تُتختزن فيها ذاكرة دينية واجتماعية تتشظى بلمفوظاتها دلالات تراثية وتاريخية لشخصيات الرواية .
خلاصة القول ان سنان انطون يكشف للقارىء في هذا العمل كفاءته وقدرته على الامساك بعناصرالتشكيل الروائي،واضاف للمكتبة الروائية العربية عملاً يستحق القراءة .

*سنان أنطون:شاعروروائي ومترجم ولد في بغداد عام 1967. له روايتان “إعجام ” و”وحدها شجرة الرمان ” وديوان شعر بعنوان “ليل واحد في كل المدن “والعديد من المقالات بالعربية والانكليزية.تُرجمت كتاباته إلى الانكليزية والالمانية والايطالية والنرويجية والبرتغالية .عاد إلى العراق عام 2003 ليشارك في اخراج فيلم وثائقي بعنوان “حول بغداد “عام 2004 عن العراق بعد الدكتاتورية والاحتلال .ترجم أشعار محمود درويش وسركون بولص وسعدي يوسف وغيرهم إلى الانكليزية.نشرت ترجمته لكتاب “في حضرة الغياب “لمحمود درويش باللغة الانكليزية عام 2011 عن دار آرشيبيلاغو. يعمل أستاذا ً للادب العربي في جامعة نييورك منذ عام 2005.
 

أحدث المقالات