19 ديسمبر، 2024 5:44 ص

رواية سقوط سرداب .. للكاتب العراقي .. نوزت شمدين

رواية سقوط سرداب .. للكاتب العراقي .. نوزت شمدين

تنوع الوحدات الأسلوبية في البناء السردي
الناشر/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/الطبعة الاولى .
تناوب الرؤى
نَسَجت مخيلة نَوزتْ شَمْدينْ السردية علاقة فنية مُركَّبة في رواية سقوط سرداب،مِن خلالها حَاول أنْ يؤسس عَالما سردياً يكشف أوجاع الانسان في أزمنة يواجه فيها عالما واقعيا تتمدد فيه سلطة الخوف والتقارير السرية ومفارز الأمن والاستخبارات وهي تقتحم النفوس قبل أن تقتحم البيوت..علاقة في متنها الحكائي يجمعُ المؤلف تداخلات المتخيّل السردي مع الحدث الواقعي في تركيبة تتأرجح مابين:رؤية داخلية، اضطلعت بهاالشخصيةالرئيسة/الساردةللأحداث(ثائر)ورؤيةخارجية/تقريرية اضطلع بها الراوي العليم بكل شيء.

خارطة هذه العلائق الفنية تكشّفت خطوطها في بنية الرواية،متواشجة مابين سلطتي الزمان والمكان،خاصة وان السّرداب ــ باعتباره حيزا مكانيا ــ يشكل بؤرة مركزية محدودة ومنغلقة على شخصية واحدة داخل سلطة زمن ساكن محدود،إلاّ أن شمدين جعل من هذا الحيز المكاني منطلقا لرؤية ذاتية نحو مديات زمنية أوسع ــ زمانا ومكانا ــ ازاء احداث وشخصيات عديدة تتوزع في ازمنة وامكنة بعيدة تمتد من مطلع القرن العشرين حتى العام 2003 حيث سقطت الدولة العراقية مع سقوط نظام صدام عندما استباحت البلاد قوات الاحتلال الاميركي وليسقط معها السرداب الذي احتمت فيه الشخصية الرئيسة (ثائر)بعد أن هرب من الجيش .

تكشف بنية المتن الحكائي في مسار الرواية السردي خروجه عن نظام التتابع الزمني في اطاره العام ونهوضه متهيكلاً على اسس علاقة فنية ينتظم فيها شكل

الزمن في المتن الحكائي ضمن مستويات متراكبة مابين التوازي والتداخل والاستباق والارتداد داخل المتن الحكائي .

هذا التجاور والحضور لأنظمة سردية في صياغة زمن مكونات المتن الحكائي المسرود يشيرُ إلى ان البنية الفنية التي ارتكز عليها شمدين في تكوين منظومة تقانات خطابه السردي قائمة على تقديم العلاقات السردية التي تحتفي بها نماذج رواية مابعد الحداثة،مُستبعدا بذلك العلاقات السببية التي عادة ماتنتظم فيها مقدمات الرواية التقليدية في استباقها للنتائج .

اختيار هذا الاجتراح التقناتي الذي انتظمت فيه نظم الصَّوغ،منح القارىء فرصة كي يعيد تفكيك وتنظيم هذا الزمن المتناثر في المادة الحكائية،ليتولى بنفسه اعادة ترتيبها من جديد،بذلك يكون شمدين ـــ وفق هذه الرؤية ـــ قد إستخدم تقانات وحدات اسلوبية متنوعة في بناء حبكته الروائية،سواء في استثمار صيغة التقارير الصحفية التي عثرعليها في السرداب الذي تختبىء فيه الشخصية الرئيسة،او النشرات الإخبارية الاذاعية عبر المذياع الصغير الذي رافقه طيلة 12 عام في عزلته ،اوالمعلومة المستلة من ركام الوثائق التي تركها جده الذي كان حريصا على ان يؤرخ الاحداث العامة،او ماتبوح به المخطوطات الشخصية التي خطها والده العميد في الجيش العراقي وهو يكشف من خلالها حقيقة التزييف الذي طال سيرته الوطنية.

يمكننا القول بأن شمدين قد انشأ مفتتحا سرديا ــ يحسب له ــ في مسار تجربة الكتابة الروائية داخل مدينة الموصل ــ تحديدا ــ التي لم يشهد تاريخها الثقافي أهتماما واضحا في الكتابة الروائية إلاّ عدد محدود من المحاولات،اغلبها لم ترتهن التجربة فيها ــ في اطارها الفني ــ الى تأكيد حضورها الخاص،وفقا لما تفرضه الكتابة الروائية من ضرورة الدخول في مساحات الكشف والاجتراح الشكلاني وذلك من خلال مَركَزَة الاسلوب السردي ،المنطلق من عتبة وجهة النظرالذاتية أو التبئير حسب مصطلح الناقد جيرار جينت،والتي يقول عنها د.عبد الله ابراهيم في كتابه المعنون(المتخيل السردي): ” الرؤية ،تقدم عالما فنيا، تقوم بتكوينه أونقله، عن رؤية أخرى” . وبقيت كثير من التجارب ــ الموصلية ــ في اطار ارهاصات الكتابة الروائية التي لم تتخلص من الموروث التقليدي ولم تكشف عن هوية واضحة .

إضافة إلى ذلك فان المؤلف قد تناول في عمله هذا وقائع تاريخية معاصرة لازالت تداعيات بعض فصولها تلقي بظلالها الثقيلة على الحاضر والمستقبل،حاول من خلالها أن يعكس رؤية ذاتية تأتي من خارج اطار منظومة الكتابات التي عودتنا عليها الاقلام في مدينة الموصل والتي غالبا ماتتسم بالمحافظة وعدم التوغل بعيدا في مناطق حساسة من التاريخ، سواء البعيد منه أو القريب .

المتن الحكائي

إن المادة الحكائية كمايقول د. عبد الله ابراهيم في كتابه المتخيل السردي:”ماهي إلا متن مصاغ صوغا سرديا،وهذا المتن إنما هو خلاصة تماهي العناصر الفنية الاساسية وهي الحدث والشخصية والخلفية الزمانية – المكانية،بالوسائل السردية التي نهضت بمهمة نسجها وصياغتها “.

وهنا في هذه الرواية تبدأالمادة الحكائية من شخصية أحلام،ارملة الشهيد سالم جميل ابو درع،الذي كان يحمل رتبة عميد ركن في الحرس الجمهوري ايام الحرب العراقية الايرانية،قبل أن يقرر الهرب من ساحة المعركة تاركا خلف ظهره سيرة ذاتية متوّجة بانواط الشجاعة كان قد قلده اياها رئيس الجمهورية صدام حسين نتيجة بطولاته وحسن ادارته لصنف الدروع الذي كان يقوده.ويأتي قراره بالهرب متجها الى محافظة السليمانية في شمال العراق ملتجئا عند الاكراد بعد أن اكتشف ماكان قد دبَّرَهُ له عدد من رفاقه الضباط من مكيدة ــ نتيجة عدم اتفاقه معهم على ماكانوا يقدمونه من تقارير مزيفة الى القيادة العليا حول معارك وبطولات وهميةلاوجود لها على ارض الواقع ـــ فما كان منهم إلاّ أن يتآمروا ضده ويرفعوا تقريرا الى المراجع العسكرية العليا،يفيد بسرقته لعدد من قطع السلاح،وهذا يعني ان عقوبة شديدة ستطاله فتوصمه هو وعائلته بعار الخيانة وقد يتعرض بسببها الى الاعدام،وقبل ان يهرب كان اتفق مع احد الجنود على ان يروّج قصَّة مقتله في ساحة المعركة، وانَّ جسده قد تناثر الى شظايا نتيجة قذيفة سقطت عليه.وبناء على افادة الجندي تحصل عائلته على كل المزايا والمكرمات التي تنالها عائلة الشهيد،إلاّ أن الجندي يتراجع عن شهادته فيما بعد ليكشف قصة هروبه من ساحة المعركة،فيتم تجريد عائلة العميد من جميع الحقوق وتصادر كل الاملاك المسجلة بأسمه وليلحقها عار الخيانة.إلا ان

العميد سالم شاء أن يعود سرا من شمال العراق ليختفي في سرداب بيته حتى يموت ويدفن داخله .

تبدو لنا شخصية احلام،إمرأة خائفة جدا على ابنها(ثائر)وهو الولد الوحيد بين خمس بنات،فقبل أن ينهي دراسته للحقوق ويلتحق في الخدمة العسكرية،يدفعها خوفها عليه من أن تخطفه الحرب، بأن تضع خطة محكمة لانقاذه من هذا المصير،وتبدأ بتنفيذها ماأن يعود ثائر الى البيت في احدى اجازاته الدورية،لتخفيه في سرداب عميق داخل البيت،مانعة ايّاً من افراد العائلة الاقتراب منه،كما تقرأ على مسمع ابناء الحارة ورجال الحزب الحاكم ــ المسؤولين عن مراقبة الحي ـــ رسالة مزيَّفة من ابنها الهارب الى اليونان،يخبر والدته فيها قصة هروبه من الجيش وسرقته مدخرات العائلة واعتذاره لوالدته عن هذا الفعل،فتتبرأ منه علنا ــ كما هو متفق عليه مع ابنها ــ وليبقى متخفيا داخل السرداب 12 عاما،وشهرين،وثمانية وعشرين يوما،واثنين وعشرين ساعة،وسبع دقائق.فالرحلة الطويلة في عالم الظلمة والوحدة ــ بعيدا عن العالم الخارجي ـــ تبدأ في تمام الساعة الواحدة وثمانية عشر دقيقة من ظهر يوم الجمعة 11 كانون الثاني 1991 عندما هبط مع والدته درجات السرداب التسع.وقبل ان تبدأ هذه الرحلة ومن اجل بعث روح العزيمة في نفسه ودفعه الى بذل المزيد من الجهد في تعلم فن المكوث مثل بومة في العتمة ” تناوبت الام والجدة على تعليمه العيش في الظلام ماأن اصبح طالبا جامعيا في كلية القانون،فكان يُجبَر على تلقي فروض اضافية كل يوم جمعة وهو نصف عار ومعصوب العينين في ملجأ كونكريتي مشيد ضمن حديقة البيت الخلفية.كان بمثابة معسكرا تدريبيا اسبوعيا تجري تفاصيله فجرا بعيدا عن اعين شقيقاته “.

كانت فترة العزلة الذاتية عن العالم الخارجي بمثابة معادل سردي عن عزلة العراق وانكفائه على نفسه بعيدا عن العالم الخارجي طيلة فترة الحصار الدولي الذي فرض عليه بعد غزوه للكويت عام 1991حتى سقوط النظام عام 2003.هذه الفترة شهد الاثنان فيها ــ ثائر والعراق ــ مشاهد دراماتيكية كانت نتيجتها تحولات جذرية لكليهما اخذتهما الى مَالم يكن متوقعا من متغيرات وتحولات.

ثناية الداخل والخارج

ثائر ينتمي الى عائلة ذات اصول طبقية برجوازية،في رصيدها عقارات ومزارع تدر عليها مالا وفيرا جعلها تعيش في بحبوحة من العيش حتى في اصعب الظروف التي كان الناس فيها يعانون من الجوع جراء قسوة الحصار .ولم يكن قبل الدخول في تجربة التخفي سوى شاب مدلل خجول يتأتىء ويتلعثم في الكلام،وغالبا ماتعرض بسبب ذلك الى السخرية مذ كان طفلا،وحتى في السنوات التي قضاها في كلية الحقوق لم يكن يجروء على التعبير عن عاطفة الحب العنيفة التي كان يشعر بها تجاه زميلته ياسمين التي كان يعشقها عن بعد لمدة اربعة اعوام .

طيلة فترة العزلة داخل السرداب ــ باستثناء العلاقة التي كونها مع الفئران والقطط والصراصيرــ كانت صلة ثائر بالعالم الخارجي مقطوعة تماما،ولم يكن من شيء يربطه به سوى راديو ترانزستر صغير ينقل له مايجري ويدور خارج جدران السرداب،إضافة الى ماكانت تنقله والدته من اخبار اثناء زياراتها الشهرية له .

وعلى العكس من ذلك فإن صلته بعالمه الداخلي بدأت تأخذ مسارا آخر غير المسار الذي كانت عليه وهو يعيش على سطح العالم الخارجي،فقد انفتحت ذاته على ذاته بعد أن كانت الابواب مقفلة بينهما بنفس الوقت الذي انفتحت فيها ذاته على العالم الخارجي من خلال عالم المعرفة التي طاف فيه بعد اطلاعه وقراءته للكتب والمخطوطات والوثائق الشخصية التي عثر عليها مكدسة في السرداب داخل صناديق وحقائب من حديد وخشب،تعود لجده المؤرخ ووالده.من هنا يرصد شمدين حالة التحول العميق في وعي الشخصية بعد أن تأتي الفرصة للخروج من عتمة الاسفل ـ السرداب ـ والصعود الى الاعلى ومواجهة العالم الخارجي بعد سقوط النظام.

وبعد أن يكتشف حقيقةعمق الخراب الذي اصاب النفوس قبل أن يصيب العمران لعالم فارقه 12 عاما،وهو يدور في شوارع المدينة ويرى الناس تمارس اعمال النهب والسلب للأموال والمؤسسات العامة بعد أن سقط النظام وغابت سلطة الدولة والقانون،يعود مرة أخرى الى داخل السرداب لكن هذه المرة بإرادته الشخصية وبكامل وعيه،وهو يحمل في ذاته ياسا يجعله غير قادر على البقاء خارج السردب وأن لاسبيل إلاّ في العودة إليه مرة اخرى.

” فهبطت الدركة الأولى والثانية توقفت في الثالثة والتفت إلى أمي المتسمرة خلفي مع أخواتي،أزحت الشعر عن وجهي قليلاِ وقلت لها بصوت فيه غلظة:

* أغلقيه ورائي.”

قبل دخوله الى السرداب كان العالم الخارجي مغلقا امامه،ولم يتجرأ تجربة التواصل معه وأكتشافه بنفسه.فكان نزوله الى العالم السفلي المحشور في سرداب تحت الارض ــ والذي يذكرنا بعوالم كافكا ــ بمثابة محاولة اكتشاف للعالم الخارجي بعد أن كان مغلقا امامه حتى ساعة مغادرته له ونزوله الى العالم السفلي.

هذه البنية الفنية المركبة الحلزونية في تكوين العلاقة الثنائية المعقدة مابين الذات والعالم الخارجي صاغها شمدين في معمارية زمنكانية يتقابل فيها(الخارج والداخل ،الاعلى والاسفل،النور والظلمة،المجموع والفرد،الصوت والصمت،الانسان والحيوان،الموت والحياة ،الحلم والواقع)فكانت مخاضا فنيا نسج فيه مادة روائية توفرت فيها شخصيات واحداث وازمنة وامكنة،جاءت داخل بنية فنية لم يتوان المؤلف في استثمار آليات سرد متنوعة في تشكيلها .

أحدث المقالات

أحدث المقالات