رواية ستالينغراد.. فاسيلي غروسمان

رواية ستالينغراد.. فاسيلي غروسمان

قبل رواية “الحياة والمصير” (Life and Fate)، خصص فاسيلي غروسمان رواية تزيد عن ألف صفحة عن معركة ستالينغراد. إنها رواية ملحمية تتطرق إلى الحقائق التاريخية، إلى تلك الحلقة الحاسمة من الحرب العالمية الثانية، والمصائر الفردية للشخصيات التي ألقيت في هذا الاضطراب غير المسبوق، الذي هو بالتأكيد الأكثر إثارة للدهشة في تاريخ الحروب التي خاضها الإنسان.
هل هي رواية حرب؟ بالتأكيد، لكن قوة غروسمان السردية وطرق البيان وأفعال الكلام أحدثت تغييرا في هذا النوع الأدبي.
خلال الثلاثة أرباع الأولى من الرواية، يتم ذكر ساحة المعركة والخط الأمامي باستمرار من قبل الشخصيات، ولكن لا وجود للمعارك أو الدماء أو الوفيات أو المعاناة الجسدية أو المعنوية. كل عنف الجبهة التي تتقدم نحو ستالينغراد يتوسطه سرد رومانسي.
الشخصيات، الضباط، العائلات، موظفو الخدمة المدنية السوفييت، هم في الخلف. إنهم مهووسون بالحرب، ويتحدثون عن الحرب، لكننا لا نراهم يشنونها. لقد اختار فاسيلي غروسمان أن يخبرنا كيف تؤثر الحرب على الحياة، والضمائر، والمخاوف، والحب، والالتزامات. وهو أمر مذهل، تتخلله خلفية من الرصاص، وتَقدم النازيين، وأيضا المعتقدات والمثل البلشفية.
وتتخلله أيضا تعبئة الرجال ورحيلهم، والحزن الذي يسببه ذلك في الأسر، ولا سيما الأسر الأكثر فقرا التي تعتمد على عمل الرجال للبقاء على قيد الحياة.
من الرواية:
“ساعد فافيلوف فانيا على الصعود إلى كرسي مرتفع جدا وشعر من خلال كفه الخشنة المتصلبة بدفء جسد هذا الطفل الصغير العزيز، بينما قدمت له عينا فانيا المشرقتين والمبتهجتين نظرة واثقة ونقية.
صدر سؤال عن فم فانيا، فم لم ينطق قط بكلمة بذيئة، ولم يدخن سيجارة واحدة، ولم يشرب قطرة نبيذ:
– أبي، هل صحيح أنك ستذهب إلى الحرب غدا؟
ابتسم فافيلوف، وامتلأت عيناه بالدموع”.
يقدم لنا غروسمان ترنيمة لستالينغراد ونهر الفولغا اللذين لا يزالان سليمين من آثام الحرب وكدماتها. نجد الناس يتجولون، لكن النفَسَ الرهيب القادم من الأمام يتسلل إلى أذهان الجميع: يُعتم المحادثات، يكسر زخم الحياة، والحب، والأحلام.
نجدهم في البداية يسيرون في صمت. يطفو سحر أمسية صيفية فوق ستالينغراد. تفوح من المدينة رائحة نهر الفولغا. كل شارع، كل زقاق، كل شيء حي، كل شيء يتنفس على إيقاع حياته. اتجاه الشوارع، صعودها وهبوطها، كل شيء يطيع نهر الفولغا، منحنياته، وانحدار ضفافه. ما يزال الجميع يضحكون في ستالينغراد، يعيشون قصص الحب، يتجادلون، ويعملون بجد.
ينضم فاسيلي غروسمان إلى السلالة الطويلة والجميلة من الكتاب الروس العظماء، وهو يستكشف روح شخصياته: الحب والحنان العائلي والشعور بالواجب والشجاعة في العمل وفي مواجهة الشدائد. ولكن أيضا الكبرياء والتمركز حول الذات والازدراء.
تستحضر رواية ستالينغراد بالضرورة تولستوي ورواية الحرب والسلام. ولكنها جعلتني أيضا – من خلال الإصرار على فك رموز سيكولوجية الشخصيات – أتذكر بعض ما كتبه غوغول.
ثم يأتي الانفجار، المعركة الكبرى، أم كل المعارك: ستالينغراد.
تجتاح القوات النازية المدينة من السماء والأرض. تسقط كتلة لا تصدق من النار، من الحديد، على المدينة المذهولة، بما يتجاوز أسوأ مخاوف السكان. هذه المعركة لن تهم السوفييت فحسب، بل الكوكب بأكمله، وستحدد مصير البشرية. تتحول ستالينغراد إلى غبار، ويمكن التعرف عليها من السماء، من خلال أعمدة الدخان والغبار.
يروي لنا فاسيلي غروسمان ملحمة معاصرة، وهي ملحمة أهل ستالينغراد المعذبين المقاومين. إن تناوب السرد بين نهر التاريخ وعدد لا يحصى من القصص الفردية جعل الملحمة إنسانية بعمق.
يمكنني اعتبار هذه الرواية نصبا تذكاريا أقامه فاسيلي غروسمان للموتى والأحياء في ستالينغراد، بل وأغنية -دون شعارات رنانة- لمجد شعوب الاتحاد السوفييتي، لمجد الجنود والعمال والنساء المضحيات من أجل الوطن والحرية، وليس لمجد القادة، وهذا ما ستوضحه الرواية التي تليها والتي تحمل عنوان “الحياة والمصير”.

أحدث المقالات

أحدث المقالات