تابعت – وبكل متعة – برنامجا خاصا في بداية عام 2020 بثته محطة ( ايستوريا ) (التاريخ ) التلفزيونية الروسية حول الزيارة التي قام بها نيكيتا سرغييفتش خروشوف – الرجل الاول في الحزب الشيوعي السوفيتي والدولة السوفيتية في نهاية الخمسينات وبداية الستينيات الى الولايات المتحدة الامريكية , حيث كنت أنا آنذاك طالبا في جامعة موسكو. لقد تذكرت ردود فعل الشباب الروس ونكاتهم ( نصف السرية ) حول تلك الزيارة , وكيف كانوا يسمونه ( كوكوروزنك ) اي ( ابو الذرة ) , لانه جلب معه من امريكا فكرة زراعة الذرة في الاتحاد السوفيتي , وتذكرت النكتة التي كانوا يحكونها عن رجل الفضاء الامريكي الذي وصل الى القمر ليزرع الذرة , فوجد القمر مزروعا بالذرة , وعندما سأل , من الذي قام بذلك , أخبروه بمجئ شخص سمين قصير القامة واصلع قد وصل الى القمر فجأة وزرع الذرة في كل مكان وعاد الى الارض دون ان يفهموا لماذا. القناة التلفزيونية الروسية لم تتحدث عن ذلك طبعا , ولكنها أشارت , الى ان خروشوف زار هوليود , واطلع ( بام عينيه !) على اخبار السينما الامريكية وفنانيها , وقد سمح – بعدئذ – بعرض الفلم الامريكي ( الحرب والسلم ) , الذي انتجته هوليود حسب رواية تولستوي في هوليود عام 1956 , وقال معلق البرنامج التلفزيوني المذكور , ان القيادة السوفيتية آنذاك لم تفكر بردود فعل المشاهدين السوفيت على هذا الفلم الامريكي , ولا بشأن ردود فعل الفنانين السوفيت بالذات , و توقف المعلق التلفزيوني بالتفصيل عند هذه النقطة الحساسة جدا آنذاك , وكيف ان الفنانين السوفيت طرحوا سؤالا كبيرا امام السلطات السوفيتية بعد عرض الفلم , وهو – لماذا انتجت امريكا رواية أعظم كاتب روسي في تاريخ روسيا , ولم تستطع روسيا نفسها القيام بذلك , وهي الاحرى بانتاج مثل هذا الفلم . وهكذا بدأ الحديث الصريح حول ذلك , ثم التنافس بين الفنانين السوفيت حول انتاج فلم سوفيتي لرواية تولستوي , والذين كانوا يقولون , انه يجب ان يكون أعظم من الفلم الامريكي لتلك الرواية , وذلك حسب الروحية التي كانت سائدة عندئذ في الفكر والمزاج السوفيتي , واستقر هذا التنافس بعد فترة ليست بالقصيرة على اسم سيرغي باندرتشوك لاخراج هذا الفيلم , وبدأ البحث عن البطلة الروسية , التي سوف تؤدي دور نتاشا رستوفا , كي تكون أروع من اودري هيبورن الامريكية في الفلم الامريكي, التي لعبت دور تلك الشخصية في رواية تولستوي , وبعد اللتي واللتيا اختاروا لودميلا سافيليفا لتمثيل هذا الدور, والتي حازت على الاوسكار بعدئذ . وقد تبيّن ( حسب البرنامج التلفزيوني المذكور ) ان المخرج الايطالي الشهير فيتوريا دي سيكا وصل الى موسكو( بعد انتاج الفلم السوفيتي ) وعرض على الممثلة الروسية لودميلا سافيليفا ان تشارك في عمل سينمائي له في ايطاليا , ولكن ( الظروف السوفيتية ودهاليزها , خصوصا بعد ان تمّت ازاحة خروشوف !!) لم تسمح للمخرج الايطالي دي سيكا ان يحقق اقتراحه المثير هذا , ومن المعروف ان دي سيكا ( الذي ارتبط اسمه بموجة الواقعية الجديدة في السينما ) هو الذي قدّم الى السينما الايطالية ( والعالمية طبعا ) افلاما خالدة مثل سارق الدرّاجة وماسح الاحذية وغيرها… .
بعد ظهور الفلم السوفيتي , هبّت عاصفة المقارنة بينه وبين الفلم الامريكي في اوساط الشباب السوفيتي , وتذكرت كل تلك النقاشات العاصفة بين الطلبة السوفيت عندما تم عرض الفلم السوفيتي في موسكو , وانتبهنا – نحن الطلبة الاجانب – الى طبيعة هذه النقاشات , وكيف طرح السوفيت الموضوع وكأنه مسألة سياسية بحتة , اذ كان التركيز ينطلق من مفهوم المقارنة بين الاتحاد السوفيتي و الولايات المتحدة الامريكية وهم يستخدمون تولستوي وروايته ( الحرب والسلم ) في ثنايا نقاشهم , لدرجة , ان احدهم طرح سؤالا حول ذلك , وهو- لو كان تولستوي حيّا فماذا كان سيقول ؟ وكانت الاجابات متنوعة جدا , اذ ابتدأت اولا بالقول , ان تولستوي كان وسيبقى حيّا في مسيرة الادب والفكر الروسي , وثانيا , ان الصراع الروسي – الغربي الذي صوّره تولستوي في روايته حول حرب نابليون ضد روسيا يجب ان يتم توظيفه ( اي الصراع ) لصالح روسيا وليس ضدها , وان الفلم الامريكي طرح الموضوع بشكل غير موضوعي , اذ صوّر الموضوع بموقف محايد , و ( الحياد هذا !!) واقعيا كان يعكس موقفا واضحا تجاه روسيا وتاريخها , واعترض البعض على هذا المفهوم قائلا , ان الفن يجب ان يكون هكذا , وتحدث البعض عن موضوع ( الابهار ) في الفلم الامريكي مقارنة بالفلم السوفيتي , وان هذا الجانب جعل الفنان السوفيتي ( يركض لاهثا ) من اجل ان يحاكي الفنان الامريكي , وجرى الحديث هنا طبعا عن ( الابهار ) عند تولستوي اصلا في هذه الرواية ( المبّهرة شكلا ومضمونا ) في الادب الروسي والعالمي ايضا , وان الامريكان حاولوا ان يعكسوا الابهار التولستوي في فلمهم , وان السوفيت حاولوا ايضا , وكلاهما لم يستطيعا اللحاق بتولستوي نفسه …
رواية تولستوي ( الحرب والسلم ) دخلت ضمن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتي في ستينيات القرن العشرين , وعلى الرغم من ان هذه الحرب قد اصبحت من الماضي بعد زوال الاتحاد السوفيتي, الا ان رواية تولستوي ( الحرب والسلم ) لازالت حيّة ترزق!!!